سحر الشرق يقود الليدي آن بلنت إلى صحراء «ألف ليلة وليلة»
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]كتسب الشرق في مخيلة الغربيين أبعادا ودلالات اقتربت من الأسطورة والخرافة، وأخذ هذا الشرق يتمتع في تلك المخيلة بصفة تكاد تكون «نمطية» تنطوي على الصدق حينا، وعلى الكثير من التصورات والأوهام الغامضة في أحيان أخرى، ولعل هذه التصورات، التي راحت تتضخم عبر العصور، جاءت من القصص والروايات التي تروى عن الشرق، ولا شك أن أهم عمل ساهم في صياغة هذه التصورات، وأطلق العنان للمخيلة، هو كتاب «ألف ليلة وليلة» الذي يقدم وبشكل مدهش قصصا خرافية تتحدث عن الأسفار في الصحراء والبحار، وعن الجن، والأقزام، واللصوص، وعن الليالي الملاح، وعن جمال النساء الشرقيات،
وعن الوقائع والحوادث الخارقة...وذلك في سرد يومي متلاحق ترويه شهرزاد لزوجها شهريار تجنبا لعقوبة الموت التي تنتظرها إن هي أخفقت في خلق التشويق لدى شهريار، فالخدعة قائمة على أن ينتظر بشغف الليلة التالية ليسمع بقية القصة، وبهذا المعنى فإن شهرزاد حافظت على حياتها عبر فضيلة القص المباركة على عكس سابقاتها اللواتي قتلن.
صورة (( الشيخه )) الليدي ان بلنت
آن بلنت (1837- 1917)هي سيدة مثقفة، ورحالة جريئة أضافت إلى أدب الرحلات الغربية في الشرق نصوص رحلتين فريدتين إلى الجزيرة الفراتية السورية، وشمال شبه الجزيرة العربية. وهي حفيدة الشاعر الإنكليزي اللورد بايرون، وسليلة أسرة نبيلة توارثت العلم والأدب، وهي تزوجت من الشاعر الانكليزي ولفريد سكاون بلنت الذي امضى شطرا من حياته في الشرق الأوسط ديبلوماسيا حيث عمل في بغداد ودمشق والقاهرة، وارتبط بعلاقات صداقة مع شخصيات عربية بارزة، مثل أحمد عرابي ومحمد عبده، ونشر كتاباً مهماً بعنوان «التاريخ السري لاحتلال الإنكليز لمصر»، كما كتب، بدوره، وصفاً شاملاً لهذه الرحلة بعنوان: «زيارة إلى جبل شمر»، نشره في مجلة الجمعية الجغرافية الملكية في لندن عام 1880، وبذلك فإن القدر قد جمع بين أديبين يعشقان حياة المغامرة والترحال في بوادي الشام والجزيرة العربية في عامي 1878 و1879، ودونت آن بلنت أحداث الرحلتين في كتابين أولهما «عشائر بدو الفرات»، والثاني «رحلة إلى نجد» الذي نعرض له.
والذي اصدرت كتاب لها عن هذي الرحله
مقتطفات من تدوين الليدي بالتاريخ واليوم ..؟
اليوم هو 31/ديسمبر من عام 1879م .. يوم طويل آخر من السير وهانحن في نهاية العام في مكان من أكثر أماكن العالم إقفارا (بطن وادي السرحان) كان البرد شديدا جدا ليلة أمس لدرجة ان جميع (الجراد) ميت انه طريح في كل مكان تأكله طيور الصحراء والقمبرات والابالق . انحدرنا مرة أخرى الى القرار الرئيسي لوادي السرحان وهو هنا مغطى بأعذاق من اليهق وأعشاب أخرى وكلها مالحة المذاق والتربة سهلة التفتيت وغير مكينة وبيضاء في أماكن بفعل ملح البارود (نترات البوتاسا) ويصرح الدليلة عواد الشراري بوجود رمال متحركة (نقرة حظوظا ) وهي (هاوية) في مكان مجاور حيث بغوص ..(تبتلع) أي شيد يمر عليها ويختفي دون ان يترك أي أثر - رجال - جمال - غزلان غير أننا لم نر شيئا من هذا .
ولما سرنا محاذين حافة الوادي قابلنا فجأة بعض الغزلان التي قادتنا الى ارض أعلى حيث وجدنا قفراً صخريا من نمط (الحرة) وبين الصخور رأينا ضبعاً يمشي الهوينا ولم نحصل على شيء .. على أية حال لا عليه ولا على الغزلان وهانحن لانزال من غير لحم ولم تحدث مصادفة أخرى حتى أتينا الى نخلة تقف وحيدة في مكان مكشوف يسمى وسيط بالقرب منها يوجد نبع ساحر صغير بين جذور أيكة كثيفة من النخيل ( قدير) واتساع الفتحة حوالي ثلاثة اقدام وعمقها قدمان وعمق الماء قدم ويرتفع الماء من جديد بمجرد ان يؤخذ منه نحن الآن مخيمون تحت حرف منخفض مجوف في شكل كهوف كما لو كان بفعل الماء مغارات رئيسية للضباع وهناك مشهد جميل يشرف الى الخلف على تلال ( مزمه) لعلها مرتفعة .. الليل هادئ وبارد ولكننا لا نحب ان نضرم كثيرا من النيران خوفا من الأعداء وحمدان دليلنا الشراري هو مخلوق فظ متوحش .. لتنظر إليه كان ينشد أقصوصة شعرية (قصيدة) جميلة جدا . ويخبرنا انه هو نفسه ناظمها وهي في ادوار كل منها مكون من أربعة سطور مع تعاقب في القوافي . وتتعلق بحادثة حدثت في عائلته . وعندما كان ينشدها كان يتبعه العرب يرجعون مرددين دائما الكلمة الاخيرة في البيت بمقطع(التفقيه) وكان لها تأثير طيب.
الليدي آن بلنت بملابس عربية ومع حصان عربي
اليوم هو الأول من يناير عام 1880م صقيع اسود ولكنه هادئ خطتنا ان ننهض ونقلع خيامنا في أول ومضة الفجر ونشرب فنجان قهوة ونأكل بسكويتا او بقسما ثم نمشي حتى الثالثة او الرابعة بعد الظهر دون توقف حتى ولا لحظة ونأكل ست تمرات وشيئاً من البقسماط ونحن نسير ثم بمجرد وقوفنا وقبل ان نضرب الخيام نوقد نارا ونصنع القهوة تصبرنا حتى يكون العشاء معدا حوالي مغيب الشمس انه لمدهش وكيف ان طعاما قليلا يمكن للمرء ان يعتمد عليه وهو مسافر . لم نتناول لحما مدة الأربعة أيام الماضية فقط مرق لحم بقري وبرغل وتمر مع بصل مشوي احيانا .
على أي حال نحن اليوم في رخاء حيث ان الكلاب طاردت أرنبا برياً فاصطادته والأرنب الصحراوي أكبر قليلاً من الأرنب الكبير وهو كثير جدا على الواحد ولا يكفي الاثنين غير ان (الدليلة) محمد يتنازل بشهامة عن نصيبه ويقول انه سينتظر .
تقدم بلنت في كتابها نصا أشبه بالسيناريو السينمائي
فلا تترك شيئا تقع عيناها عليه إلا وتسجله، لكنها ترسم ذلك بخطوط بارعة، ولقطات ذكية، فهي أتقنت الرسم على يد الفنان والناقد الإنكليزي الشهير جون راسكين، إلى جانب دراستها للموسيقى وخبرتها في أنواع الخيول العربية خصوصاً، ومعرفتها الواسعة بالجيولوجيا والآثار...فتقوم بتوظيف كل هذه الخبرات في معاينة هذه الأرض الواسعة المفتوحة على الآفاق الرحبة التي تحرض المخيلة على العمل، فتكتب المؤلفة بتفصيل دقيق عن طبيعة البدو، وعن طبيعة الحياة في الأماكن التي مرت بها، وتسلط الضوء على عاداتهم، وتقاليدهم، وطقوسهم، ونمط معيشتهم وإكرامهم للضيف، ولا تغفل عن الحديث عن مفردات البيئة، وثقافتها، وعناصر الطبيعة من الحيوانات والنباتات، والرمال، والأطلال الدارسة، وذلك عبر وصف لا تنقصه تلك اللغة الشاعرية الحالمة: «كان الغروب قد حل تقريبا عندما رأينا جبّة للمرة الأولى، تحتنا عند طرف السبخة، أشجار نخيل خضراء داكنة تقطع اللون الأزرق الباهت للبحيرة الجافة، وما وراء ذلك نسق من الصخور الحمراء ينتصب في صحراء النفود الوردية، وفي مقدمة المشهد رمل اصفر مكلل بالدر.كان المشهد برمته متوشحا في ضوء المساء، بديعا فوق كل وصف»، وعندما تصف خيلا تكتب بدقة تثير الإعجاب: «إنها فرس جميلة كستنائية، مطلقة اليمين، على خشمها غرّة (وضحة)، لها طريقة رائعة في الحركة..،جمالها يفوق سرعتها، رأسها جيد، عيناها واسعتان براقتان، جبهتها مسطحة، خدودها غائرة، حاركها منيف وظهرها قصير، أردافها مستديرة..،أوتارها قوية وحوافرها كبيرة مدورة، مكتنزة بشكل رائع...»، وفي مقطع آخر نجدها تصف صحراء النفود فتقول: «إن منظرها بديع إذ تتكون من رمل ابيض نقي، ارتفاعها بين خمسين ومئة قدم، تتخللها بقع من الأرض الصلبة، وتكسوها الأعشاب. فيما ينمو الغضا هنا بشكل أشجار ذات جذوع كثيرة العقد، بيضاء تقريبا، لها أوراق رمادية خفيفة». وتضيف: «لونها أحمر زاه يكاد يكون قرمزيا في الصباح عندما يرطبها الندى. أما رمالها فهي خشنة، ولكنها نقية لا تشوبها أية مادة دخيلة كالحصيات أو حبيبات الرمل الكبيرة أو التراب، ويبقى لونها، ومادتها ثابتين في كل أنحائها. ومن الخطأ الكبير أن نعتبرها صحراء قاحلة، بل هي على العكس غنية بالشجيرات والكلأ اكثر من أي جزء من البوادي التي مررنا بها منذ مغادرتنا لدمشق».
نساء البدو الجميلات:
وكانت نساء البدو تجذب اهتمام الليدي آن بلنت سليلة النبلاء، ففي محطات الاستراحة التي تتوقف فيها القافلة في هذه القرية أو تلك ولدى هذا الشيخ أو ذاك كانت بلنت تتعمد أن تترك مجلس الرجال لتذهب إلى غرف النساء وتتحدث إليهن، وتتعرف على معاناتهن، وطريقتهن في الحياة، وتقرأ أفكارهن، وتصغي إلى قصصهن، وتحاورهن في شؤون مختلفة من حياتهن، وتكشف عن همومهن وأحلامهن،وها هي تتحدث عن إحدى البدويات، اسمها مطرة، فتقول: «لقد أحببت وجه مطرة مذ رأيتها، فلها نظرة صادقة تحدق إليك مباشرة بعينيها السوداوين الكبيرتين كعيني الخشف. لها بشرة لامعة نضرة، وصوت مبتهج محبب»، وكانت بلنت تحرص في كل مرة أن تتصرف مثلهن وان تكتسب عادات البدو وطباعهم لئلا تبدو غريبة، ونافرة وسط هذه الصحراء وناسها القساة، الكرماء، وفي صفحات الكتاب نشاهد لها صورا كثيرة وهي ترتدي الزي البدوي كدلالة على حبها وتعلقها بحياة الصحراء.
في العام 1881 انتقل الزوجان بلنت إلى مصر، واشتريا مزرعة الشيخ عبيد، جمعا فيها عدداً كبيراً من الخيول العربية، إضافة إلى المزرعة الأخرى التي يمتلكانها في بريطانيا، وبعد انفصال الزوجين في عام 1906، سافر ولفريد إلى بريطانيا، وبقيت آن في مصر حتى وفاتها عام 1917، وظل كتابها «رحلة إلى نجد» وثيقة حية عن الحياة البدوية قبل قرن وربع، والملاحظ ان ابنتها جوديث سارت على خطى والدتها، إذ زارت أيضا في العام 1924 السعودية وبقيت كوالدتها تحن إلى الشرق، وتتابع تقاليد الفروسية العربية، وتقرأ أشعار الفرسان العرب كعنترة وامرئ القيس وغيرهم.