رامبو العقل وليس العضلات

وضّب أمتعته ووضعها في حقيبة سوداء ، وصعد إلى سفينة عمره السابعة والثلاثين وأبحر إلى عالمٍ مجهولٍ لا أحد يعلم إلى أين ، وماذا ينتظره هناك ؟
أغمض عينيه ورحل عن عالمٍ لم يعجبه كثيراً ، لأنّه مليء كما ذكر بغرائب وعجائب لا يستطيع حلّ طلاسمه سوى مَن أوجده وأبدعه ... رحل وترك وراءه بعض القصائد كالمركب النشوان والإشراقات وفصل في الجحيم والعديد من الرسائل التي أثارت حيرة الكثيرين من الشعراء الفرنسيين وغيرهم .
نعم .. إنّه جان نيكولا آرثر رامبو الذي وُلد في شارلفيل بفرنسا عام 1854 وتوفي في مارسيليا بفرنسا عام 1891 ، لم يكن يحب أن يستقر في بلدٍ واحد فقد كان عاشقاً للحريّة المطلقة وعاشقاً للسفر " الحياة دائماً في المكان نفسه أمرٌ بائس جداً " هذه المقولة التي كان يردّدها دائماً جعلته يتنقل بين الكثير من البلدان مما اضطره إلى أن يعمل تاجراً في القارة السوداء وبالتحديد في أثيوبيا إلى أن عمل مدّة طويلة أيضاً في مدينة عدن بتجارة البُن وغيرها ..
رامبو ... إلى أي الشواطىء البعيدة كان يحنّ ؟! ذلك المتمرّد اللاهث الصغير . ذلك الراحل دوماً من أجل هدفٍ مجهول . إلى أي البحار النشوانة كان يرفع شراع القصيدة ، ويبحر دون زادٍ أو رفيق ؟
لم يكن آرثر رامبو ليسأل نفسه هذه الأسئلة الصعبة التي ترهق وجدانه الخفيّ ، ولكنه كان يعمل على حلها بعفوية غريبة ، وعزمٍ لا يكل . فمنذ هجر مقاعد الدراسة واختار مهنة المغامرة والرحيل وهو يحاول أن يعثر على مفتاح الحريّة الحقيقية التي تجعل من الإنسان قادراً على فهم أسرار الكون واكتشاف ينابيع الحلم الذي يبدو عصيّاً على الحضور .
نعم بكيت كثيراً
فكلّ فجرٍ كئيب
وكلّ قمرٍ قبيح
وكلّ شمسٍ مُرّة
ملأتني حدّة الحب
بحذرٍ نشوان
فليتحطّم هيكلي
ولأغرق ...
يمّم رامبو وجهه نحو الشرق ، فقد كان لديه الشوق والرغبة الكبيرة إلى كنوز الشرق الخفيّة من السحر والتصوّف والرؤى التي تتجاوز حدود الحس . وكان ينشد أن يعرف الإنسان القريب من صفاء الطبيعة الأول المرتبط والموصول الجذور بعالم الروح الأبدية .
إنّه الحب ... والأبدية
نحن نتذكره وهو ماضٍ في أسفاره
نهاره !إنه انصهار جميع الآلام الصامتة
والمتحركة في أعنف موسيقى
يا لخصب الروح
ويا لاتساع الكون ...
كان رامبو يطارد طيفاً لا يقترب إلا لينأى ، ولا ينأى إلا لكي يراود خياله عن كثب مرّة أخرى . لقد وجد المعادل لذلك العالم المراوغ العصي في شعره ، فقد جاء شعره ومضة خاطفة فذّة من بهاء هذا العالم ، وإشراقه ، وغموضه .

فقد اجتمع في شعره الرمز والعمق والتصوّف والجنون ، فنسجت كل هذه الخيوط المدهشة جديلة حريرية رائعة من ابهر الرؤى والمشاعر التي تنمّ بدفئها وثرائها عن ذلك الحنين القديم إلى الفردوس الإنساني المفقود .
فليقبل ، فليقبل
الزمن الذي نعشقه
فلكم صبرت صبراً
لن أنساه للأبد
الألام والمخاوف
في الهواء تبخّرت
والظمأ المدنّس
يعكّر دمي
.........
كان رامبو شاعراً مسكوناً بشيطان البحث عن المستحيل وعن الحرية المطلقة والصدق المطلق والحب المطلق ، وظل هكذا إلى أخر يوم في حياته ملهماً كل روح ثائرة نبيلة نزوعها الجامح وشعلتها الخالدة .
إنّ عظمة رامبو وعبقريته الشعرية تتجلى في قصائده النثرية التي فتحت الطريق لشعراء الحداثة فيما بعد ، لقد كسر اللغة وحطّمها ثم بنى على أنقاضها لغة جديدة سُمّيت بالحداثة الشعرية .
ما أحوجنا الوم إلى رامبو الحكمة والفكر والرويّة والعقل ، وليس إلى رامبو القوّة والفتك والقتل والعضلات الأمريكي .