لطالما حلم الإنسان من فجر التاريخ بأن يحلق في جو السماء بكل حرية, تمامًا كما تفعل الطيور. لطالما حاول أن يقلد المخلوقات الطائرة ليسمو هو الآخر إلى الارتفاعات الشاهقة ويتنقل بين البلاد بسرعة.
كانت بدايات تلك المحاولات فجة حقا فجاجة إدراك الأجيال السابقة لقوانين الطيران التي أودعها الله في خلق الكون, إلى أن كان العصر الحديث, وفتح الله على الإنسان بالمعارف اللازمة للطيران, فحقق الأخوان «رايت» أول نجاح لطيران جسم أثقل من الهواء في عام 1903م. وتتالت بالطبع الفتوح في هذا المجال حتى تمكن الإنسان - بفضل من الله - مغادرة الغلاف الجوي والسياحة في الفضاء الخارجي.
بالرغم من كل ذلك كان الإنسان ولا يزال متتلمذًا في هذا المجال - شأنه في جميع المجالات الأخرى - على مخلوقات من بديع صنع الله الذي يشاهده في آفاق الكون ومنها ذوات الأجنحة, ويعجب - ويكابر في بعض الأحيان - لقدرات بعضها الفائقة على الطيران مما تجعل من أحدث المقاتلات العصرية تبدو كآلات بدائية بالمقارنة بها؛ فالحشرات الطائرة تستطيع أن تطير إلى الأمام وإلى الخلف, كما أنها تستطيع أن تحوم وتناور بخفة وبمرونة أكبر من أفضل الطائرات المقاتلة الحديثة, الذبابة مثلاً – التي تحدى الله بخلقها المعجز البشرية – تستطيع أن تنفذ أشكالاً وأنماطًا من الطيران لا تكاد تجتمع في غيرها من الطائرات أو الطيور أو الحشرات الطائرة, فهي تستطيع أن تحوم في مكانها كطائرة الهليكوبتر, وتحلق كالطائرات الشراعية والطيور الكبيرة الجارحة, وتنقض كما تفعل الصقور, وتناور في لمح البصر أفضل من مناورة أحدث مقاتلة معروفة للإنسان حتى اليوم, كما أنها تستطيع أن تفعل ما لا تستطيع أن تفعله أي طائرة عرفها - ولربما لن يعرفها - الإنسان, ألا وهو الهبوط بشكل مقلوب. إن منظر الذبابة الهابطة بشكل مقلوب على الأسقف, رغم كونه مألوفا, إلا أنه إبداع هندسي معجز لا تستطيعه أي طائرة يصنعها الإنسان, كما لا تستطيعه الغالبية العظمى من المخلوقات التي تطير, ولا يقلل من تلك العجيبة إلا طول الإلف لها, وكما يقال: فإن القرب حجاب.
وقع البعض من مهندسي الطيران الأوائل في خطأ المكابرة - بسبب قصور فهمهم - عندما حاولوا جاهدين الإثبات علميا عدم قدرة البعض من تلك المخلوقات - كالنحلة الطنانة - مثلا على الطيران بناء على قوانين السريان الهوائي المستخدمة في تصميم الطائرات الحديثة,حيث إن للنحل بصفة عامة أجسامًا كبيرة وثقيلة مقارنة بأجنحتها الرقيقة والمتواضعة مما لا يخولها قدرة الإقلاع - حسب زعمهم طبقًا للقانون الأساسي لتوليد قوة الرفع الناتج عن السريان الهوائي في المخلوقات والآلات الطائرة, وهو القانون الذي يسري على كل شيء يطير بجناحيه, سواء أكان طائرة بوينج 747 العملاقة, أو مجرد ناموسة صغيرة لا وزن يذكر لها, يتحتم على الجميع توليد قوة رافعة تزيد عن وزن الجسم الطائر على أقل تقدير, وإلا فإنه سيظل ملتصقًا بالأرض بفعل الجاذبية كبقية المخلوقات, وينص قانون الرفع على:
قوة الرفع = {(0.5) × كثافة الهواء × مربع السرعة × مساحة الجناح × عامل الرفع}
تعريف الخضربة: هي أثر مخر الطيران في الهواء وهو شبيه بمخر السفن في الماء، والأخير بالطبع يمكن أن يرى بالعين المجردة، ويرى الأول بطرق علمية منها تلوين الهواء بأدخنة معينة في الأنفاق الهوائية
حيث يقصد بـ:
السرعة: هي السرعة النسبية بين الهواء والجناح, سواء أكان ذلك بتثبيت الهواء وتحريك الجناح أو بتثبيت الجناح وتحريك الهواء أو تحركهما معًا في اتجاه متقابل أم معاكس.
عامل الرفع: وهو رقم مجرد يعتمد على الشكل الانسيابي الهوائي لتركيبة الجناح ذاته, وزاوية التقاء الجناح بالهواء وهي الزاوية الحاصلة من التقاء المحور الطولي للجسم الطائر واتجاه الرياح. وتتراوح قيمة عامل الرفع ما بين 1 - 10, إلا أنها في غالبية الأحيان تكون أقرب للرقم 1.
بعد هذا البيان نقول: إنما حصل هذا الخطأ منهم لأن التحليلات العلمية للقوى الرافعة المتولدة عن أجنحة تلك المخلوقات - طبقًا لنظريات الرفع المبينة أعلاه, والمستخدمة في تصميم الطائرات الحديثة, لا تستطيع نظريًّا أن تزود الحشرات الطائرة بأكثر من ثلث القوى الرافعة اللازمة لطيرانها. بيد أن واقع الحال على خلاف ذلك, فما تزال تلك الحشرات الضعيفة تطير على وجه الأرض منذ أن وطئتها أقدام الإنسان, ولربما لأزمنة سحيقة قبل ذلك, بل إن الحشرات الطائرة والطيور الصغيرة والخفافيش تتمكن من توليد ما يزيد عن ثلاثة أضعاف ما يمكن حسابه بواسطة قوانين الطيران المستعملة في تصميم الطائرات, وهي لذلك تتمتع بكفاءة تصميمية خارقة بالنسبة لقدرات الإنسان الهندسية.
نقطة البداية لحل هذه المعضلة العلمية تكمن في النظر في فوارق تكوين أجنحة الحشرات الطائرة وكثير من الطيور الصغيرة والخفافيش, وطريقة عملها المغايرة لعمل أجنحة الطائرات, حيث تمتاز أجنحة هذه المخلوقات عن أجنحة الطائرات بحركات معقدة ثلاثية الأبعاد, يقوم فيها الطائر بدفع جناحيه الرقيقين إلى الأمام وخفضها إلى الأسفل في نفس الوقت مع دوران للجناح حول محوره الطولي, ثم - إكمالًا للحركة المولدة للرفع - يقوم الطائر بعكس تلك الحركات المركبة إلى الأعلى والخلف مما يساعده في توليد المزيد من قوى الرفع.
تقوم هذه المخلوقات بخفق أجنحتها بالطريقة المذكورة عشرات المرات في الثانية الواحدة, وعند قمة الهرم, وهكذا فإن الطائر الطنان يقوم بخفق جناحيه بالطريقة ذاتها 200 مرة في الثانية الواحدة, ومن خلال استمرارية هذا الخفق المعقد الحركات تتولد قوى الرفع التي لم يستطع العلماء بدء فهم آليتها إلا مؤخرًا, وبالمقابل فإنه يتم تصميم أجنحة الطائرات على دراسات أكثر تبسيطًا (ثنائية الأبعاد) تفترض الثبات في سرعة سريان الهواء على جناح الطائرة ذي المنحنى الهوائي الثابت, أو سرعة الدوران الثابتة لريش (أجنحة) المروحيات (الهليوكوبتر).
تبين للعلماء المهتمين بهذا الحقل - علم الطيران المقارن - أن تطبيق نظرية سريان الهواء على أجنحة الطائرات الثابتة لا يشكل الوسيلة الصحيحة لفهم الظاهرة, وأن الطريق الصحيح يكمن في شيء آخر ألا وهو دراسة السريان الهوائي على الأجنحة الرقيقة ذات الخفق الثلاثي الأبعاد؛ وفي بداية الأمر لم تفلح كثير من تلك المحاولات نظرًا لهشاشة تلك الأجنحة وبالتالي صعوبة إجراء الدراسات التجريبية عليها مما دعا الدارسين إلى التفكير في حل الإشكال عن طريق دراستها بواسطة النماذج التشبيهية العملية. ضمن هذا الإطار قام فريق من العلماء الأمريكيين عام 1997م ببناء آلة تشاكل بعض أنواع الفراشات وتكلف تصميمها وإنتاجها 100.000 دولار أمريكي واستغرق تسعة أشهر من الجهود المكثفة لفريق التصميم, حيث بلغ طول جناح الفراشة الآلية (مترًا) ويعادل ذلك عشرة أضعاف طول جناح أكبر الفراشات المعروفة والبالغ 10سم, المهم في الأمر أن ذلك الجناح التشبيهي صنع بطريقة تمكنه من الخفق بنفس أسلوب الفراشة الحية, لكن بسرعات أبطأ, نظرًا لفارق الحجم كذلك لأن التجارب ستجرى في سائل أكثر لزوجة من الهواء بهدف تسهيل رؤية وتوثيق الملاحظات إلى القدر الذي يمكن معه رصد التفاصيل الدقيقة لطريقة توليد قوى الرفع لدى الحشرات والتعلم منها.
تمكن العلماء في عام 1997م من خلال دراسة السريان الهوائي لجناح الفراشة الميكانيكية العملاقة؛ من اكتشاف أحد مركبات اللغز الذي حيرهم, لخمسة عقود من الزمان وتم اكتشاف ظاهرة سريان هوائي جديدة تسمى الدوامات الهوائية اللاصقة بمقدمة الجناح
. وتعتمد آلية توليد الرفع بهذه الطريقة على قدرة الحركة الثلاثية للجناح حيث يتم توليد القوة الرافعة بشكل رئيسي من حركة الانهيار الهوائي المؤجل حيث تقوم الحشرة برفع جناحيها إلى أعلى قاطعة الكتلة الهوائية أمامها بزاوية التقاء عالية أعلى من زاوية التقاء جناح الطائرة العادية بالهواء وهو أمر يصعب أن تقوم به الطائرات. تدخل الطائرات مرحلة ما يعرف بالانهيار الهوائي أي تفقد قوة الرفع بسبب توقف السريان السليم حول الجناح عند زاوية التقاء عالية كهذه، غير أن الحشرات بسبب حرية الحركة الثلاثية للجناح فإنها تحرك أجنحتها بطريقة معينة تمكنها من توليد تيار هوائي فوق مقدمة الجناح يعرف باسم الدوامة الأمامية، مولدة بذلك قوة الرفع، وأثبتت القياسات المختبرية التي تم إجراؤها أن الدوامات الهوائية اللاصقة تولد قوة رفع تزيد مرة ونصف عن احتياج الحشرة للطيران بينما كانت التوقعات طبقاً للمعادلة رقم(1) المبنية على نظرية السريان الهوائي السريع فوق الجناح لا تزيد عن توليد ثلث ما تحتاجه الحشرة من القوة الرافعة، أي أن الله تعالى قد وهب الحشرات الطائرة قوة رافعة تعادل خمسة أضعاف ما توقعه الدارسون الأولون للحياة الفطرية الطائرة طبقاً للنظريات العلمية المستخدمة في تصميم الطائرات الحديثة.
وبالرغم من أهمية الاكتشاف السابق علمياً؛ فإنه قد لا يكون كافياً في تفسير قدرات الطيران المتميزة لدى بعض الحشرات الطائرة، مما حدا ببعض مراكز الأبحاث الأخرى متابعة البحث والتنقيب عن المزيد من أسرار قدرات توليد الرفع لدى المخلوقات الصغيرة الطائرة، ولذلك قام فريق آخر من الباحثين ـ بعد نشر نتائج البحث الأول عن الفراشة الميكانيكية ـ بصناعة جناحين مكبرين مطابقي لجناحي ذبابة الفواكه من حيث التركيب، يبلغ طول كل منها 25 سم، وهو مصنوع من مادة بالاستيكية خاصة، ومن أجل أخذ أثر عضلات الحشرات في الحسبان؛ قام فريق بوصل كل جناح بثلاثة محركات صغيرة: أولها ليمنح الجناح القدرة الحركية في اتجاه الأمام والخلف، وثانيها ليمنح الجناح القدرة على الحركة إلى الأعلى والأسفل، وأما ثالثها فيمنح الجناح القدرة على الحركة الدورانية. فمن مجموع تلك الحركات الثلاث المركبة تتكون الحركة الكلية لخفقات جناح ذبابة الفواكه وبقية الحشرات، وأطلق الفريق على تلك الأجنحة الصناعية مسمى الذبابة الآلية وقد تم غمر الذبابة الآلية في حمام زيت معدني لزج نسبياً، لدراسة القوى المتولدة عنها، بدءاً من خفقها في الهواء، كما تم تزويد تلك الأجنحة بمجسات قوى في قاعدتها لمعرفة مقدار القوى المتولدة عن خفقاتها.
لقد كشفت التجارب الأولية على الذبابة الآلية وجود طريقتين ثانويتين متمايزتين لطيران الحشرات ـ إضافة إلى أسلوب توليد الرفع الأساسي في الحشرات الذي تم اكتشافه سابقاً ـ وتم إطلاق مسمى ( الدوامات الهوائية اللاصقة بمقدمة الجناح " أو " الانهيار الهوائي المؤجل ) أطلق عليه مسمى قوة رفع ( السريان الدائري ) ( Rotational Circulation ) وقوة رفع حجر الخضربة ( Wake Capture) وأطلقوا على القوتين الأخريين اللتين لم تكونا معروفتين حتى الآن ـ مما يساعد في تزويد الحشرات بالمزيد من قوى الرفع التي تمكنها من الطيران ورفع الحشرات في الهواء، عند بداية نصف دورة حركة الجناح، أو عندما يغير الجناح اتجاهه قوة رفع ( السريان الدائري ) وهو عبارة عن أن الذبابة عندما تقترب من نهاية خفقة الجناح تقوم بإدارته نحو الخلف، محدثة قوة رفع شبيهة بتلك التي تتولد من دوران كرة التنس. إضافة إلى ذلك فإن حركة الجناح الدائرية هذه تتيح للذبابة المحافظة على طاقتها؛ عن طريق حجز الخضربة أي الإفادة من الدوامات الصغيرة التي أحدثها الجناح أثناء حركته الصاعدة؛ في توليد قوة رفع إضافية يجعل الجناح ملاصقاً لتلك الدوامات التي تجعله يطفو كما يطفو القارب على الماء، والتي كانت ستضيع سدى لولا الحركة الالتفافية الدائرية للجناح.
كم هي عظيمة قدرة الخالق الذي منح تلك الحشرات ـ التي يستقرها الناس ـ قدرات الطيران فائقة الكفاءة، وكم هو الطريق طويل أمام البشرية لتتعلم المزيد من التقدير لعظمة الخالق سبحانه وتعالى، التعرف على المزيد من أسرار الخلق.