لم تعر انتباهاً يذكر لوقفته اليومية أمام موقف الباص العمومي الذي كانت تستقله للذهاب إلى مدرستها، لكن مع تكرار وقوفه ساهماً يتأمّلها، أحسّت أنّ في الأمر شيئاً غريباً.. لكنه يسلمُ القلب لاضطراب جميل !
وهكذا، إلى أن غالبتها ابتسامة خجلى ذات صباح وهي تعجب من مواظبته في الوقوف بالنظرة الساهمة إياها التي لم تتغير منذ اليوم الأول. ولما مدّت يدها بقطعة النقود إلى بائع التذاكر ذلك اليوم، فوجئت به يقول: «الأجرة دُفعت من الأخ هناك»... نظرت إلى حيث أشار، فرأته... ولم تسعفها المفاجأة، ولا سنوات عمرها الغضّة في اتخاذ أي رد فعل يليق بفتاة محافظة، فاستسلمت لارتباكٍ سيطر عليها طوال النهار المدرسي !
وأدهشها تكرّر الموقف في اليوم التالي، لكنها لم تتردّد هذه المرة في توصيل موقفها الحقيقي، استدعت بائع التذاكر، ودفعت إليه بقطعة نقدية وهي تقول: «أرجو أن تردّها إلى السيد هناك مع الشكر».
مرت لحظات، وهي سارحة يساورها شعور ما بالاعتداد، مشوب بقليل من العطف... وذلك إلى أن أفاقت على صوت تدحرج قطعة نقد من آخر الباص إلى حيث تجلس لتستقر قرب مقعدها تماماً !
تجاهلت الأمر، لكن الموضوع برمّته شغلها حتى صباح اليوم التالي، حينها، وفي اللحظة التي استقرت فيها على المقعد قرب نافذة مفتوحة في الباص، وصل إلى حجرها عبر النافذة نفسها مغلف مُغلق، ألجمتها المفاجأة... تلفّتت حولها في ذعر، فلمحته ينسحب من المكان بسرعة، وبين رغبتها الشديدة في معرفة ما يحتويه، بين قراءة كلماته لها، وبين تصميمها على الظهور بمظهر الفتاة المهذّبة المتّزنة... قرّرت التخلّص من الرسالة، فمزّقتها بسرعة، وألقت بالقصاصات من النافذة وهي تعرف جيداً أنه يراقب ما يحدث...
وتقول صاحبة هذه الذكرى البعيدة: «اختفى بعدها... ولم أعد ألمحه، فنسيته مع الوقت...».
ثم صمتت، لتضيف فجأة بصوت لم يخلُ من الحزن: «لو يعيد الزمن نفسه، لكنت قد قرأتها أولاً، ثم مزقتها... فضولٌ ما زال يلازمني حتى اليوم، فضولٌ لم يطفئه التقدّم في العمر... ولا كلّ دواعي النضج والحكمة والوقار»!