بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة على اشرف الانبياء والمرسلين
سيدنا وحبيبنا (( محمد ابن عبد الله الهاشمى )) صلوات الله وسلمه علية
وبعد
اخوتى اخواتى فى الله
ان اختيار الخطاب القرآني للعقل كغاية وكوسيلة في آن واحد ، ينبع من طبيعته الإعجازية أصلاً …
فبينما اعتمدت باقي معجزات الرسل على ( إعجاز) الحس والعقل بأفعال خارقة للقوانين الطبيعية المادية ، فان إعجاز القران على العكس من ذلك يعتمد على إيقاظ العقل والنهوض به …المعجزات الحسية التقليدية – لو تتبعنا كل منها على حدة – تعتمد على خرق ، واضح للعيان لظاهرة مادية تقليدية ، يتبعها اعتراف من الشهود بعجزهم العقلي عن فهم او متابعة هذا الخرق ، يستلزم هذا العجز التسليم والانقياد التام من قبل الشهود لصاحب المعجزة ، وبالتالي التصديق بقضيته الأساسية : التوحيد وطاعة الرسول غالباً.
هذه الثلاثية المتلازمة ( التحدي – الإعجاز- والتسليم ) تسلك طريقاً اخر مع المعجزة القرآنية ، فاذا كانت هذه المتلازمة اعتمدت وبشكل أساسي على إعجاز العقل – أي إعلانه العجز والهزيمة ورفعه للراية البيضاء – عبر الانقياد ، فان أي مظهر او اثر لمحاولة من هذا النوع عبر المعجزة القرآنية غير موجودة على الإطلاق …وعلى العكس من ذلك فان إلية ( الإبطال) القرآنية لمعتقدات وتقاليد وقوانين الجاهلية كانت تعتمد أساساً وبشكل كبير على استنهاض قيم وطرق تفكير مضادة ، قوامها استنهاض العقل بدلاً من محاولة هزيمته ، وإعلان قيامته بدلاً من إعلان عجزه …كان هذا هو محك الرهان القرآني في إعجازه . ان يقوم العقل من سباته ليكون الحكم – في قضية قديمة تعددت فيها الأقوال والأحكام والأساليب . ان يعلن العقل ثورته على ( اللاعقل ) السائد بكل مظاهره المتعددة ابتداء من الشرك الى مظاهر الاستغلال والقهر الاجتماعيين .
وكان هذا النوع من الإعجاز الذي اتخذ شكل الجدل حصراً على الأقل في الثلاث عشر سنة الأولى من البعثة – مؤلماً وخارقاً للغاية لمعانديه ، حتى انهم– وقد أعياهم الجدل و أعجزهم العقل – طالبوا بالنوع التقليدي من المعجزات الحسية المعتمدة أساساً على إعجاز العقل لا قيامته ، وكان هذا النوع من المعجزات يناسب لغتهم وطريقتهم في التفكير ، لانهم كانوا سيجدون حتماً طريقة للالتفاف على هذا النوع من الإعجاز – كما وجدت الأمم السابقة في التجارب النبوية السابقة …
لذلك ظلت المعجزة القرآنية فريدة ونادرة في الإصرار على مخاطبة العقل – والعقل وحده – في عملية التغيير التي هي هدف كل دين وكل رسالة وكل دعوة .
ولعل هذا الإصرار على ما هو جوهري لا في طريقة التبليغ فحسب بل في طبيعة الرسالة ذاتها كان عاملاً مهماً وأساسياً بل وحاسماً في كون الإسلام هو الرسالة الخاتمة للرسالات السماوية السابقة .
فالطابع الحسي لمعجزات الرسالات السابقة دمغ هذه الرسالات بطابع حسي يتناسب مع لغة اللاعقل التي كانت سائدة والتي استطاعت المعجزة الحسية اختراقها والتفاهم معها لكن الرسالة الخاتمة يجب ان تتميز عن ذلك بتقديم لغة حية تصلح مقدماتها ونتائجها لكل العصور ، لا تصلح فقط لكل العصور ، بل تُصلِح كل العصور …
… وكان هذا سراً اخراً من جوانب إعجاز الخطاب القرآني …
*************
ان من جوانب إعجاز الخطاب القرآني الأخرى تحويله الفرد المشاهد من دوره السلبي المعتاد في المعجزات السابقة الى دور الفاعل الايجابي المشارك في المعجزة بعقله الذي قام ليحكم وينطق ويعلن …
كان دور المشاهد في المعجزات السابقة يقتصر على المشاهدة ومن ثم يصاب بسكتة عقلية تتطلب منه الخضوع والانقياد ، كان عجزه عن فهم المعجزة هو المفتاح الأساسي للمهمة الرسولية …
لكن آلية إعجاز القران كانت مختلفة ، ان إعمال العقل كان شرطاً أساسياً لتحسس الإعجاز ولهذا كان الخطاب القرآني موجهاً دوماً وباستمرار لناس (يعقلون) اذ لا فائدة حقاً ترجى من ناس أصيبوا بإبهار اسكت عقولهم …
وبينما يشترط الخطاب ، كبداية ، العقل فانه لا يكتفي بهذا الشرط بل يستمر في تحفيزه واعماله خطوة خطوة تارة يتحداه واخرى يستفزه ومرة ينشطه ودوماً يعتمد عليه كمحك وكرهان أساسي … دوماً لغة العقل هي السائدة في هذا الخطاب الذي اعجز لغة اللاعقل التي كانت سائدة آنذاك…هل نستطيع ان نتخيل اثر ذلك ؟ هل نستطيع ان ندرك حقاً حجم الاثر الذي تركته هذه المعجزة ، الخطاب ، على الأفراد المؤمنين ومن ثم المجتمع ؟
هل نستطيع ان نحدد الأثر الهائل الذي أنتجه التماهي مع الخطاب القرآني والذي عبر عن نفسه بالتقديس والحفظ والتعبد عبر القراءة المحظة ؟؟
ان اثر هذا التماهي : الناتج النفسي – الاجتماعي-الحضاري – هو ببساطة المعجزة الحقيقية . انه الإنسان الذي تغير ، اعيد تكوينه وتشكيله ، هو المعجزة التي تمشي على قدمين . أي مقارنة بين أوضاع إنسان الجاهلية ( مهما حاولنا إلصاق الثقافة والرقي والذوق به عبر الشعر الجاهلي مثلاً ) وبين إنسان الإسلام – والفارق الزمني الذي لم يكن يتجاوز العقد الواحد بينهما ، ستبين لنا حجم المعجزة المتحققة على كافة الأصعدة: الأخلاقية ، الدينية . الاقتصادية.
وكان الإنسان – نواة المجتمع- الهدف – هو المعجزة التي لم تتحقق الا عبر تفاعلها مع الخطاب القراني .نعم ! ان الحديث عن إعجاز القران يكون دونما معنى ان لم يكن مقترناً (بالأثر) الذي صاحبه ولا اقصد بالاثر هنا الانبهار بألفاظ القران والعجز عن الآتيان بمثلها والحيرة بتصنيفه كما جرت العادة عند الحديث عن معجزة القران بل المقصود هو الأثر بعيد المدى الذي تحقق في الإنسان – المؤمن : حاصل الخطاب القرآني..
والحديث عن هذا الأثر البعيد المدى لا يمكن ان يكون أبدا الا بربط الخطاب القرآني بالواقع التاريخي الذي افرغ معجزته فيه …
ان المقارنة التاريخية بين إنسان الجاهلية – إنسان ما قبل القران ، وإنسان الإسلام- إنسان الخطاب القرآني ، تجعلنا ندرك – ولو نسبياً – أبعاد الإعجاز القرآني الذي تمثل وبشكل مادي في الإنسان – المجتمع …
وبينما انشغل الأولون- في تحديد ماهية الإعجاز في ألفاظ القران المجردة وذهب بعضهم الى ان المعجزة الحقيقية كانت في ان الله صرف كفار مكة عن القدرة على الإثبات بمثل آيات القران مع قدرتهم على ذلك أي ان المعجزة كانت في التدخل الإلهي الذي (منع ) او ( صرف) الكفار في الاستجابة للتحدي ساعة التحدي ! .
وعلى سخافة هذا القول ، فأنه يشير إلى عمق التخبط والضياع الذي أنتهى أليه الفكر الإسلامي – حتى في القرون الأولى ، فبعد أن أنشغلوا بأعجاز الألفاظ القرآنية المجردة ، انتهوا إلى هذه النهاية المؤسفة التي تجرد الخطاب القرآني من أعجاز مباشر وتنسب المعجزة للصرف أو المنع ..
ولكن .. ماذا عن المعاني ؟ . ماذا عن نظام المقاصد ؟. ماذا عن دستور الحياة ؟. ماذا عن التفاعل الأنساني الأجتماعي الذي ألتحم بالخطاب القرآني وتماهى معه ليحقق أعظم وأغرب طفرة في التاريخ : من مجتمع البداوة وتجمعات البدو التقليديين ، إلى مركز العالم خلال أقل من 30 عاماً فقط ؟؟
تلك هي المعجزة الحقيقية . لاشي أبداً يشبهها . لعلنا لم نتعود قط أن نعتبرها كذلك ، لكن ( معجزة القرآن ) هي تفاعله مع البشر وردود أفعالهم تجاهه وبدون هؤلاء البشر لايمكن تخيل ( أعجاز ما ) للقرآن ..
أن معجزة الخطاب القرآني لا تكون إلا بهم . لا تكتمل إلا بوجودهم . ولا تبلغ ذروتها إلا بكونهم يعقلون ..
ولو كانوا لا ( يعقلون ) – لما تحقق هذا الأعجاز – ولما صار ..
وهذا هو جانب التميز في المعجزة القرآنية : تحويل الأنسان العادي إلى فاعل أيجابي مشارك حتى في المعجزة . وأي أعداد عظيم للأنسان الذي سيغير العالم فيما بعد ، أن يكون فاعلاً حتى في المعجزة . وأن تكون لغة التواصل التي يتم بها هذا التفاعل ، هي لغة جديدة تستحضر وتبتكر خطوة خطوة عبر التفاعل نفسه ، وتكون في نفس الوقت جزءاً من المعجزة ذاتها : أنها لغة العقل التي خاطب القرآن بها الناس وزرعها فيهم في الوقت نفسه ..لغة ؟. منهج ؟. طريقة في التفكير ؟.
أن تكون هذه هي المعجزة ، ثم يبحثون في ألفاظ مجردة أو في منع إلهي للأتيان بمثله ..
* * *
بطريقة أو بأخرى ، فأن جوهر المعجزات الحسية للرسالات السابقة تحقق عبر معجزة الخطاب القرآني وتفاعلها مع الأنسان والمجتمع ..
وكما مس السيد المسيح بيديه المرضى ليشفي الأبرص والأكمة ويعيد الموتى إلى الحياة ، فكذلك فعل الخطاب القرآني عبر تفاعله وتعامله مع الأنسان : لقد شفى مرضى التخلف والجهل واللاعقل – وهي أمراض وبائية وأكثر خطراً من البرص – وبعث الحياة في أنسان جديد ومجتمع جديد ..
وكما تحولت العصا الميتة في يد موسى إلى حية تسعى ، تحولت مجموعة التقاليد والقيم والمفاهيم الميتة البالية التي كانت تكبل عرب الجزيرة إلى مفاهيم جديدة ، طازجة ، تنبض بالحيوية ، بالحركة ، بالحياة . مفاهيم ( تسعى ) ..
وكما أنشق البحر أمام عصا موسى ليمهد الطريق لأرض الميعاد ، فقد أنشقت صحراء التخلف وبحر الظلمات أمام الخطاب القرآني لتمهد الطريق أمام حضارة جديدة . بناء جديد ، لأنسان جديد ، بمفاهيم وأفكار ورؤى جديدة .لكن الفارق الجوهري أن أبرص المسيح قد مات منذ زمن بعيد جداً ، وحتى الميت الذي بعث للحياة مات أيضاً . وحية موسى ماتت إيضاً كما عاد البحر الذي أنشق أمام العصا ..
أما مع الخطاب القرآني فالأعجاز مستمر . أو فلنقل أن جسر التواصل ممدود معه ما لم نقفل أنفسنا دونه . لا يزال بأمكان الخطاب القرآني أن يشفي من أمراض الجهل واللاعقل والتخلف ، ويبعث الحياة في أنسان جديد لمجتمع جديد ، لا يزال بأمكان الخطاب القرآني أن يحول المفاهيم البالية والقيم الساكنة إلى مفاهيم وقيم جديدة تضج بالحياة و ( تسعى ) ، ولا يزال بأمكانه أن يشق صحراء التخلف وبحر الظلمات ليمهد الطريق أمام بناء حضارة جديدة .. مادام جسر التواصل مع قوم ( يعقلون ) موجود ومفتوح ..
.. وأكثر ما في الأمر إشكالاً أن العراقيل الموضوعة على جسر التواصل تستند غالباً إلى قيم ومفاهيم تتنكر بالأسلام وبالقرآن بالذات . وذلك لظروف تاريخية وثقافية وأجتماعية يطول شرحها ..