نهاد قلعي.. الكوميديا السورية التي لم تتكرر منع وزير الثقافة من دخول العرض متأخر
أبو الطيب المتنبي ونهاد قلعي يتقاطعان في نقاط كثيرة، فإذا كان الأول واحداً ممن تربعوا على عرش الشعر العربي مدافعاً عن شرف ورجولة الشاعر، فإن نهاد قد تربع على عرش الكوميديا العربية مدافعاً عن إنسانية ومكانة الفنان الدرامي إن كان ممثلاً أو كاتباً أو مخرجاً مسرحياً، كلاهما ذو قومية في النزعة، عقلانية في الفكر، فطرية في الموهبة ومهارة في استخدام أدوات التعبير، كل واحد منهما هو ذهن منفتح لكل ما حوله من دنيا الناس التي يصور حياتها، خصائصها، وملامح طباعها، مستمداً ذلك من وحي المشاهدة والخبرة والمعرفة والوعي، كذلك يعتمد نهاد على عقله في نظرته لأمور الحياة بطريقة فكاهية لا نظير لها، وهو أيضاً نال شهرة واسعة وحاز تقديراً عالياً من جمهوره.
أوتي نهاد عبقرية خصبة، تهيأ لها من الثقافة والاطلاع على التراث العالمي، ومن التحصيل العلمي الدراسي، كذلك تهيأ لها الغذاء اللازم لإنمائها وإنضاجها، برزت في الكتابة والتمثيل، فقد عايش منذ مطلع شبابه رجالات الظرف في دمشق من مثل فخري البارودي الذي كان يقلده ليضحك ندمائه، خالط المؤسسين الرواد في الشعر الحديث والغنائي، والقص الشعبي والموسيقا أمثال: نزار قباني، عمر الحلبي، حكمت محسن، عدنان قريش، محمد عبد الكريم ورفيق شكري، كذلك عايش الفرق الشعبية والفرق التي تقدم المسرحيات العالمية، لقد وُهِبَ نهاد عقل المفكر الذي تتجلى قدرته في كشف الظواهر الاجتماعية والأخلاقية والسياسية في راهنيتها، فاضحاً سلبيات علاقات أفرادها في السلوك والعادات وطريقة التفكير، ولد نهاد في دمشق أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، نشأ في حي المهاجرين الشعبي، أحب الفن، استهوى المطالعة من أجله، بدا ممثلاً في النادي الشرقي مع محمود المصري ثم شارك في ندوة الفكر والفن مع رفيق الصبان.
عمل مخرجاً وممثلاً بطلاً في مسرحيات: ثمن الحرية وزنوبيا، مجنون ليلى، الأستاذ كلينوف، مما جعل مدير المسارح والموسيقا نجاة قصاب حسن يستدعيه ليكون من أول مؤسسي المسرح القومي ومديراً له، لعب دور البرجوازي النبيل لموليير بإبداع ملفت، وكذلك في مسرحية الليدي ويندرمير بطولةً وإخراجاً، حدث في أحد العروض أنه كان من المفترض حضور وزير الثقافة آنذاك، تأخر عن الموعد، فقال نهاد للمدير: ستفتح الستارة في موعدها، لا تدع الوزير يدخل، خذه إلى غرفتك، قُل له إن أحببت حضور المسرحية، ادخل أثناء الاستراحة أو تعال في يوم آخر وتأكد من ساعتك التي تحملها بيدك، هكذا كان جاداً مخلصاً في عمله ومحترماً لفنه وأصوله، كان إن أتته دعوة عشاء بعد العرض من شخصيات اعتبارية في المحافظات يقول: أنا بمهمة رسمية، والدعوة لكل أعضاء الفرقة وليس لي وحدي.
منذ تأسيس التلفزيون السوري عمل مع خلدون المالح في برنامج سهرة دمشق، كتب لوحات تمثيلية استدعى إليها دريد لحام ليشكلا ثنائياً كوميدياً عظيماً خالداً اكتسح الوطن العربي، واستمر لسنوات طويلة، وفيما بعد قاما بتأسيس فرقة تشرين المسرحية في 1973.
أشتهر نهاد بأداء شخصية كوميدية نمطية من كتابته (حسني البورظان)، استطاع بعبقريته تحريك هذه النمطية من جمودها، جعلها دينامية في تبدلاتها حسب النص المطروح، خاصةً في أعماله السينمائية،، فظهرت كـ: مدير -رجل مستقيم متزمت، نصاب ينتحل شخصية مليونير- مُنقذ ومساعد في حل مشكلات إنسانية، من أفلامه: عقد اللولو، لقاء في تدمر، غرام في استانبول، فندق الأحلام، أنا عنتر، امرأة تسكن لوحدها، واحد زائد واحد، الصعاليك، زوجتي من الهيبز، النصابون الثلاثة، خياط للسيدات، مقلب من المكسيك وغيرها، مثّل مع كبار نجوم مصر: فريد شوقي، كمال الشناوي، شادية، مريم فخر الدين، نبيلة عبيد، سهير المرشدي، وغيرهم وكذلك مع نجوم تركيا ومشاهير نجوم لبنان في التمثيل والغناء وتفوق عليهم.
أما في مجال الكوميديا الشعبية التلفزيونية، فلقد بلغ شأنا عظيماً ككاتب وممثل، كتب مسلسل مقالب غوار، رفضه التلفزيون السوري، فاتفق على تنفيذه مع محطة لبنانية (قناة 11)، صور الحلقة الأولى منه مع ممثلين لبنانيين، عُرضت، شاهدها صباح القباني مدير التلفزيون آنذاك فطلب من نهاد إكمال تصوير بقية المسلسل بدمشق مع ممثلين سوريين، وهكذا كان، وحقق نجاحاً ملفتاً، ثم كتب مسلسل حمام الهنا المأخوذ عن رواية روسية (12 كرسي) أجاد وأبدع في إيجاد البديل الموضوعي للبنية المحلية، فبدت شامية الأصل في أحداثها وفكاهتها وشخصياتها وصنعت نجوماً في التمثيل والغناء، ثم في السبعينيات كتب (صح النوم) و(ملح وسكر)، اللذين حققا نجاحاً شعبياً على امتداد الوطن العربي لم يصل إليه أي عمل تلفزيوني كوميدي إلى يومنا هذا.
كان نهاد صاحب الجملة الشعبية الكوميدية التلفزيونية كما كان حكمت محسن قبله في الإذاعة، من النادر أن تجد في العالم كاتباً كوميدياً يقدم شخصيات نمطية كوميدية (كاريكاتيرية) محضة في عمل واحد، فهو طوّر شخصيات أبو فهمي، أم كامل وأبو صياح وأدخلها مع أخرى جديدة من تأليفه: ياسينو، أبو عنتر، فطوم حيص بيص، أبو كلبشة، أبو كاسم، أبو رياح، وبالطبع حسني البورظان وغوار الطوشة، لديه مهارة نادرة حيث لم تقترب كتاباته من الابتذال ولم تبتعد عن الفكر، امتلأت بالسخرية والانتقاد الاجتماعي والسياسي اللاذع، وبالأحداث والأفعال الفكاهية الخارقة، بحوار ذكي سلس مقتضب يسكن القلوب لظرفه وطرافته، ويُحفز العقل على التفكير بما يناسب كل شخصية على حدة حيث لها ألفاظها الخاصة والتي حفظتها الجماهير وتندرت بها، كتبها باندفاعة الروح الكوميدية النابضة أبداً، أظهر فلسفته في الترميز الراقي البسيط الموجه إلى عقل المُتلقي، مثلاً عبارة (حارة كل مين أيدو ألو) واضحة الدلالات ومفهومة، وأيضاً تكرار عبارة (إذا كنا نريد أن نعرف ماذا يجري في إيطاليا علينا أن نعرف ماذا يجري في البرازيل) ألا يحرض ذلك على تفسير أحوال معيشتنا وعلى اتخاذ الموقف اللازم حيال المجتمع ولما يحدث للوطن والأمة؟، ألا يشير ذلك إلى غنى الخبرة الحياتية وعمق المعرفة بالأخلاق السائدة وروعة تصوير البنية في أصالتها وروحها وواقعيتها؟ ألم يكن حاذقاً في تشخيص الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مما جعله متمكناً في إيصال نبض الشارع العربي عبر إتقانه حبل الأحداث ورسم الشخصيات؟ المأخوذة من الواقع والمنسوجة من الخيال الخاص معاً؟.
حدث بعد عرض لضيعة تشرين أن ذهب لعشاء في أحد مطاعم باب توما، جلس إلى طاولة قريبة، بعض رعاع احتاجوا لسجائر، ضيفهم نهاد، فأعاد واحد منهم العلبة برميها على الطاولة قائلاً بلهجة الجاهل المتذمر: شكراً بورظان، انتفض نهاد في تلك اللهجة من جرح للفن وتعدٍّ على كرامة الفنان، تشاجرا، ضُرب بكرسي سبب له شللاً في يده، حيث أرسلته الدولة ليتلقى العلاج في ألمانيا وفرنسا، لكن نهاد تابع عمله في ضيعة تشرين وغربة بقوة أخلاقه وشجاعته، ثم قام ببطولة مسلسل عريس الهنا مع ياسين بقوش وسلوى سعيد، إخراج محمد شليان، لحسن حظي اشتركت في هذا العمل، التقيت به ومثلت معه، رأيته كيف يكابد المرض والأسى، وكيف يتعامل الآخرون بحب التلاميذ لمعلمهم، كذلك تابع كتابة القصص للأطفال في مجلة أسامة أسبوعياً لمدة لا بأس بها، وكتب سهرات إذاعية اجتماعية كوميدية للإذاعة ومثّل فيها.
من صفاته المشهود له فيها: المرح، الدماثة، الإنسانية العميقة، الحنان، الدفء، وأهم خصاله الكرم، يحكى أنه عندما ترك الإقامة في بيروت ترك كل ممتلكاته من أثاث وسيارة للخادمة التي كانت راعيةً لأكله وشربه وملبسه، ومهما كان عدد المنضمين إلى طاولة عشائه فهو الذي يدفع الحساب ولا يسمح لأحد أن يقوم بذلك، وصبيحة أحد الأيام أثناء بث البرنامج الإذاعي معكم على الهواء، اتصل طبيب من مشفى الهلال الأحمر، قال بلوم شديد إن نهاد مريض منذ 15 يوماً، لم يأت أحدٌ لزيارته إلا شخص أو اثنان!! بعدها بأيام توفي فيها، سارت جنازته من حي المهاجرين إلى جامع لالا باشا، بشارع بغداد، ثم دفن في مقبرة الدحداح، ولأول مرة تبدأ جنازة بعدد قليل من الناس ثم تنتهي بحشود غفيرة، كنت واحداً منهم وكان على رأسهم كبار المسؤولين والفنانين والأدباء والصحفيين.