هذا النص القرآني الكريم جاء في الربع الأول من سورة البقرة, وهي سورة مدنية, وآياتها مائتان وست وثمانون(286) بعد البسملة, ويدور محورها الرئيسي حول التشريع الإسلامي, وهي أطول سور القرآن الكريم علي الإطلاق.
هذا, وقد سبق لنا استعراض هذه السورة المباركة وما جاء فيها من تشريعات, وعقائد, وأخبار, وقصص, وقواعد أخلاقية وسلوكية, وإشارات كونية, ونركز هنا علي ومضتي الإعجاز الإنبائي والعلمي في الإخبار عن ذلك العلم الوهبي الذي علمه ربنا ـ تبارك وتعالي ـ لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ عند خلقه.
وحقيقة هذا العلم الوهبي تناقض كل ادعاءات الماديين التي تنادي بأن الإنسان بدأ أبكم جاهلا كافرا, ثم تعلم النطق بتقليد ما حوله من حيوانات, وعرف ربه من خلال فزعه من الأحداث الطبيعية من حوله كالزلازل وثورات البراكين, والعواصف والأعاصير وغيرها, وهي ادعاءات انتشرت في ظل الحضارة المادية المعاصرة هروبا من الإيمان بالخلق ومن الخضوع للخالق ـ سبحانه وتعالي ـ, ونوجز هنا شيئا عن ومضتي الإعجاز الإنبائي والعلمي في النص القرآني الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال..
أولا: من أوجه الإعجاز الإنبائي في النص الكريم:
يؤكد هذا النص القرآني الكريم أن الإنسان بدأ عالما, عابدا, ناطقا, متكلما بلغة منطقية مفهومة, في الوقت الذي ينادي أغلب علماء الدراسات الإنسية( الأنثروبولوجيا) بأن الإنسان الأول لم تكن له قدرة علي الكلام, ولم تكن له لغة يتكلم بها مع غيره سوي لغة الإشارة باليد الواحدة أو باليدين; وأنه لم تكن له أية عقيدة محددة, وإن تعرف علي الله ـ تعالي ـ بعد ذلك من خلال فزعه من الظواهر الطبيعية. وانطلاقا من هذا الفهم الخاطئ كتب( مايكل كورباليس) الأستاذ بجامعة برنستون الأمريكية كتابا بعنوان: في نشأة اللغة: من إشارة اليد إلي نطق الفم.
Corballis,MichaelC.(2002):FromHandToMouth:
heOriginsOfLanguage'PrincetonUniversityPress .
وجاء في هذا الكتاب ما ترجمته: وأنا أزعم أن اللغة في معظم هذه الفترة كانت إشارية في الدرجة الأولي, علي الرغم من أن الأصوات أخذت تتخللها بصورة متزايدة... ويضيف:.. وقد يكون إصدار الأصوات قد خدم جزئيا ـ في نشأة اللغة ـ لكونه إضافة إلي إشارات الوجه والفم واليدين, وجعل الإشارات غير المنظورة لكل من اللسان والتجويف الفمي مسموعة. واللغة بالطبع ـ حتي لغة اليوم ـ نادرا ما تكون صوتية خالصة...
وهذا التضارب في تحقيق قضية غيبية غيبة مطلقة كقضية نشأة اللغة عند الإنسان سببه الانخداع بفكرة التطور العضوي التي فندتها الكشوف العلمية أخيرا ودحضتها دحضا كاملا, خاصة في مجالات مثل مجالات علوم الوراثة, وعلم الخلية الحية, وعلم الأحياء الجزيئي.
وجميع ما وضع من نظريات وفروض لتفسير نشأة اللغة بعيدا عن حقيقة خلق أبينا آدم عليه السلام وتعليم خالقه له الأسماء كلها لحظة خلقه وعن تهيئة جسد الإنسان تشريحيا للنطق بالكلام, هي نظريات وفروض باطلة, يدحضها التقارب الشديد بين جميع لغات أهل الأرض, وشيوع العديد من الألفاظ بينها, خاصة بين اللغات القديمة منها, مع تسليمنا بأن اللغة تنمو وتتطور كما ينمو ويتطور كل كائن حي.
وتكفي في ذلك الإشارة إلي أن أكثر من خمسين في المائة من ألفاظ كل من اللغتين السريانية والعبرية هي ألفاظ عربية الأصل. وبالتحليل الدقيق للغات أهل الأرض( التي يقدر عددها اليوم بأكثر من خمسة آلاف لغة ولهجة) يمكن ردها إلي أصل واحد هو لغة أبوينا آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ وقد كانت اللغة العربية, كما جاء في عدد من الآثار.
ومن أقوال ربنا ـ تبارك وتعالي ـ المؤيدة لهذا الاستنتاج ما يلي:
1 ـ وعلم آدم الأسماء كلها[ البقرة:31].
2 ـ الرحمن* علم القرآن* خلق الإنسان* علمه البيان[ الرحمن:1 ـ4].
3 ـ اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم* الذي علم بالقلم* علم الإنسان ما لم يعلم*[ العلق:1 ـ5].
كذلك; فإن خلق الإنسان مزودا بأجهزة للسمع والنطق,( منها الأذنان, واللسان, والتجويف الفمي, والأحبال الصوتية المرتبطة بجهاز عصبي غاية في دقة البناء, وإحكام الأداء) ينفي ادعاءات الدهريين بأن الإنسان بدأ وجوده جاهلا, كافرا, أبكم, ثم تعلم النطق بتقليد أصوات الحيوانات من حوله.
كما تعرف علي الله من خلال فزعه من الظواهر الطبيعية. وهذا هو موقف كثير من الملاحدة والمشركين الذين زادت أعدادهم زيادة مفزعة في ظل الحضارة المادية المعاصرة التي تتنكر لخالقها فتنسب كل شيء إلي الطبيعة, دون أن تتمكن من تحديد دقيق لمدلول لفظة الطبيعة.
أما نحن معشر المسلمين فنؤمن بأن الإنسان خلق عالما, عابدا, ناطقا, مفكرا, مزودا بكل صفات التكريم التي كرمه بها خالقه, ومزودا كذلك بكل الأدوات اللازمة لتأهيله بالقدرات المطلوبة لحمل أمانة الاستخلاف في الأرض, والقيام بكل تكاليفها.
ونحن معشر المسلمين نؤمن كذلك بأن كلا من أبوينا آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ خلق بهذا التكريم, يتكلمان العربية الفصحي( أم اللغات كلها) التي علمها لهما ربهما بتقديره ومنه وإحسانه, وعلم كلا منهما حقيقة وجوده, وفضل موجده عليه وعلي نسله من بعده, وتفاصيل رسالته ورسالتهم, ومسئولية استخلافه واستخلافهم في الأرض, وحمل أمانة التكليف فيها.
ومن معاني كلمة( العربية) الإبانة والإيضاح, ومن هنا سمي الإعراب( إعرابا) لتبيينه الأمر وإيضاحه. ومن ذلك قول المسلمين في الجزيرة العربية أنهم كانوا يستحبون أن يلقنوا الصبي حين يعرب ـ أي حين ينطلق ويتكلم ـ أن يقول: لا إله إلا الله سبع مرات.
ومنه باب خاص من أحاديث رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ في مناقب فضل العرب جاء فيه ما يلي:
عن سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: قال لي رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: يا سلمان لا تبغضني فتفارق ديني, قلت: يا رسول الله; كيف أبغضك! وبك هدانا الله, قال: تبغض العرب فتبغضني( جامع الترمذي).
وعن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي( قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حصين بن عمر الأحمسي عن مخارق, وليس حصين عند أهل الحديث بذاك القوي).
من ذلك يتضح فضل اللغة العربية علي جميع لغات أهل الأرض, لأنها أصل هذه اللغات جميعا, وهي لغة أبوينا آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ التي علمهما إياها رب العالمين الذي( علم آدم الأسماء كلها), أي أسماء كل شيء بمسمياته, ولذلك فلابد من أن جميع لغات أهل الأرض( المقدرة اليوم بأكثر من خمسة آلاف لغة ولهجة) قد انبثقت عن اللغة العربية, التي أنزل بها ربنا ـ تبارك وتعالي ـ رسالته الخاتمة إلي الثقلين( الإنس والجن), وتعهد بحفظ هذه الرسالة الخاتمة في نفس لغة الوحي بها( اللغة العربية), فحفظت في القرآن الكريم وفي سنة خاتم النبيين ـ صلي الله عليه وسلم ـ علي مدي فاق الأربعة عشر قرنا, وتعهد ربنا ـ تبارك اسمه ـ بهذا الحفظ تعهدا مطلقا إلي ما شاءت إرادته, حتي يبقي الإسلام ـ الذي اكتمل في كتاب الله وفي سنة خاتم أنبيائه ورسله ـ حجة لله علي جميع خلقه إلي يوم الدين.
من هنا كانت الإشارة القرآنية إلي تعليم الله ـ سبحانه وتعالي ـ لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ الأسماء كلها( أي أسماء كل شيء بمسمياته) لمحة من لمحات الإعجاز الإنبائي الغيبي لو لم يخبرنا بها ربنا ـ تبارك وتعالي ـ ما كان أمام الإنسان من سبيل للوصول إليها, ولذلك تضطرب آراء غير المسلمين في تفسير نشأة اللغة عند الإنسان, كما ضربنا مثلا واحدا علي ذلك, وغيره كثير إلي درجة أنه أكثر من أن يحصي, أو أن يعد في مقال محدود كالذي نكتبه.