فلنتدارك سوريا!.. أحمد مصطفى – كاتب صحفي
من شرفة الزمن العربي الرديء.. من فضاء الثورات العربية تطل سوريا مثقلة بتراكمات الماضي مثخنة بجراحات الحاضر مشكلة أبعاد لوحة جيوبولوتيكية سياسية عصية على كاميرات التغطية ومشاهد النقل المباشر التي تحولها عولمة الإعلام إلى وجبات إعلامية سريعة وجاهزة لإطعام أفواه محبطة طالما لاحقت أطياف الشعارات بحثا عن سراب أمل تطمئن له النفوس...
ولكي لا ننساق خلف عبثية تلاحق الأحداث، كما يصورها الآخرون دعونا نسلم بنسبية الوقائع والحقائق السورية، فما يمطرنا به الإعلام "الكوني" ليس الحقيقة، وإنما هو محاولة لخلق حقائق عن بعد وتوظيفها في سياقات استيراتيجية معلومة المصادر والوسائل والغايات، وما يروج له الإعلام السوري في الموالاة والمعارضة قد يكون غير دقيق هو الآخر، رغم أنه يرتكز على وقائع ملموسة على الأرض.
فلنسلم جدلا بأننا باحثون عن حقيقة سورية نسبية، وأنها ليست مع أي منا، ولكنها أمامنا نلاحق ملامحها الغائرة في بحر المعاناة والدماء وغبار الحرب النفسية المستعرة.
استحقاقات الداخل.. أجندات الخارج
يتطلع شعب سوريا الذي كان دوما في كلكل الحدث التاريخي إلى تغيير واقعه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولم تعد قواه الفاعلة ونخبه تطيق تراكم الإحباطات وإنسداد أفق التغيير، بل لم تعد مقتنعة باحتكار أي تيار مهما كان لاختزال إرادات التغيير والتحرير والتطوير لذلك تتحرك أعداد متزايدة من السوريين بهدف تحقيق تحول نوعي يضمن تكريس مبادئ الشورى الديمقراطية وتداول السلطة والتناوب على دفتها من خلال آليات ديمقراطية شفافة تكسر احتكار السلطة وتفتح أمام السوريين آفاق عبور آمن نحو المستقبل... لكن مستقبل سوريا لن يحضر من فراغ، ولن يستنبت في الأرض المحروقة إنه يبنى تأسيسا على ثوابت ومتغيرات ضاربة في عمق الواقع وفي أغوار الوجدان، فسوريا اليوم شئنا أم أبينا تمثل حالة عربية رمزية فريدة فهي تجاوزت إكراهات الأمية ومدرست شعبها بنسب في حدود 100% وهي تحقق اكتفاءات ذاتية في استهلاكها الغذائي وفي توفير حاجاتها من المحروقات، وهي تمثل آخر قلاع الممانعة والتصدي للغطرسة الإسرائيلية وما يدعمها من مطامع ماحقة. إن سوريا رغم الانسداد السياسي تشكل آخر قلاع العروبة المقاومة، وقد ضحت تضحيات كبيرة لن تحجبها أضواء فضائيات "الفوضى الخلاقة".
فللنظر إلى الأحداث السورية ببصيرتنا لا ببصرنا الإعلامي المشوش فهنالك شعب ثائر وهنالك نظام يحاول احتكار الأمور واختزالها من أجل البقاء، وهنالك آخرون من دون هؤلاء وأؤلئك يتحركون وفق أجندات تريد إضعاف النظام إلى أقصى حد وإفشال الثورة لجعل الأمور تسير في اتجاه حل وسط، يفك طلاسم الصمود السوري، ويأتي بنظام يستمد شرعيته الظاهرية من تجاوبه الآني مع مطامح الشعب وحركية الشارع "وشرعيته الدولية" من إنتاجه في معامل الشرق الأوسط الجديد الذي هو شرق أوسط إسرائيلي أمريكي بامتياز.
ملامح الأجندات الغربية لسوريا
رغم أني لست مؤمنا بنظرية المؤامرات الدائمة على العرب ولست من صناع الشماعات الجاهزة التي نعلق عليها إخفاقاتنا الكثيرة فإنني ألمح معالم مخطط تآمري متكامل على سوريا.
ففي الماضي كان هنالك شبه توازن إقليمي غير معلن حين كان العراق الشيعي إلى حدود 60% محكوما بأقلية سنية وكانت سوريا السنية إلى حدود 70% محكومة بأقلية شيعية ووقتها، لم تمكن بعثية النظامين القائمين في ذاك الوقت من تجاوز هذه المعطاة التي لا تترآى لأول وهلة.
وبعد احتلال العراق تراكمت الإخفاقات الإستيراتيجية الأمريكية فخلقت دون أن تدري فضاءا شيعيا متصلا يشمل إيران والعراق وسوريا العلوية وصولا لجنوب لبنان مع امتداد في البحرين والكويت وشرق السعودية، وعندما انتبه الأمريكيون على وقع الإنزعاج الخليجي بعد فوات الأوان إلى هذا "الاختلال" بادروا إلى إنشاء صحوات العراق السنية، ولكنها لم تغير موازين القوى، بل إن الأحداث أثبتت أن المحور الإيراني السوري بات يشكل أكبر خطر متربص بإسرائيل، وأكبر جبهة إسلامية عربية متصلة لمواجهة التحديات، ولأن حماية إسرائيل حاضرة في كل الاستيراتيجيات الأمريكية والغربية، وفي أفق إنسحاب الأمريكيين شكلا من العراق كان لابد من تفكيك محور الممانعة فأسند المسار القانوني لمحكمة الجنايات الدولية لتتهم حزب الله بدم الحريري وحين لم يعط الموضوع نتائجه وفر حراك الشعب السوري الذي هو حراك وطني من أجل التغيير فرصة اقتنصها المتربصون لتحقيق هدف استيراتيجي خططت له العقول ورصدت له الوسائل.
وكل التصريحات الأمريكية والإسرائيلية وحتى تصريحات "دول الاعتدال" الإقليمية المتعلقة بأحداث سوريا عكست وتعكس هدفا بات واضح المعالم فهم لا يريدون نجاحا حاسما للثورة لأنه سيمكن قوى مقاومة وممانعة من الوصول إلى السلطة، ولا يريدون الإبقاء على النظام بشكله الحالي لأنه يتمتع برمزية وطنية ومصداقية داخلية لذلك، تسير خياراتهم الاستيراتيجية نحو دفع الأمور في اتجاه إسقاط رأس النظام في عملية طائفية تحمل ضابطا سنيا من أركان النظام إلى سدة الحكم على أمل أن يؤدي ذلك إلى تغييرات منها إنهاء حكم العلويين المتهمين بالتشيع المرتبطين بإيران مع المراهنة على أن تكون سوريا السنية أكثر اعتدالا وأكثر استعدادا للتجاوب مع الأطماع الإسرائيلية ويتوقعون أن يكون دورها الإقليمي داعما للطائفة السنية في لبنان على حساب الشيعة، وأن تكون كابحا طائفيا لمطامح إيران، ويراهنون على أن تكون سوريا التي يخططون لها أكثر استعدادا لبناء قطبية معتدلة إلى جانب السعودية وغيرها من دول الاعتدال، ولن يشكل النظام الجديد المنكفئ على أوضاعه الداخلية أي خطر على إسرائيل وسيتعايش مع تركيا الطامحة لبناء قطبية تجارية واقتصادية في المنطقة، بشكل يبقي الأمور تحت السيطرة الغربية.
إذا كانت هذه هي معالم الأجندات والمخططات التي يخطط لها الأمريكيون ومن على شاكلتهم فماذا يفترض أن تكون مواقفنا كعرب هل سنظل مبهورين بكاشفات التغطية الإعلامية الموظفة؟ هل سنظل منبهرين باحتراق البوعزيزي ومحاصرة القذافي في باب العزيزية، وفي حراك مصر حتى نخسر سوريا؟
أعتقد أننا أمام لحظة تاريخية مفصلية، وأنه يتعين أن ننظر إلى الأمور بشكل أعمق فسقوط سوريا هو سقوط لكل العرب وجراحات سوريا هي جراحات كل العرب، والجغرافيا السياسية وواقع الصراع العربي الإسرائيلي تجعل مصير سوريا فوق مجريات الشأن المحلي، فدعم التحول السياسي السلمي الديمقراطي الإصلاحي في سوريا وارد ومطلوب، ولكنه يختلف اختلافا كليا عن دعم الأجندات والمخططات الخارجية التي تتسلل عبر "بريق الثورات" والفوضى الخلاقة الهادفة إلى تفتيت العالم العربي وتحويله إلى محميات... وأعتقد أن الإصلاحات التي أعلنت عنها القيادة السورية والمطالب التي عبر عنها الشارع السوري تشكل وجهين متكاملين لطبيعة التغيير الممكن في سوريا فلندعم السوريين لإنفاذها قبل فوات الأوان.