هل يمكنك أن تجزم أنك لم تبكِ -طوعاً- على الأقل مرةً واحدةً في حياتك ؟ إذا أمكنك ذلك ، فأنت إما من حَجَر ، أو لديك انسدادٌ في القنوات الدمعية.
إن مصطلح “الرجل لا يبكي” غطى عقولنا كما يغطي الذباب الجثث ، إنني لا أتحدث من وجهة نظر ٍ شخصية ٍ بل إن هذا حقيقي! وهل تعلم ما هو الحقيقي أيضاً ؟ البكاء نعمة. نعم إنه نعمة! وسأقول لك كيف.
ذهنياً ، في أعماق عقل الإنسان الشاسع الأطراف ، تطير الأفكار والذكريات يميناً وشمالاً ، كُلٌّ في سبيله وإلى مقصده وحسب المخطط إليه ؛ ما عدا نوع ٍ واحدٍ من محتويات العقل ألا وهي الهموم.
الهموم تتراكم وتتكدّس فوق بعضها كما تتكوّم نشارة الخشب على أرضيّة بيت النجار ، وبعكس بقيّة الأحاسيس والأفكار – التي ترتّب نفسها بنفسها ولا تأثر سلباً على حياة الشخص – فالهموم تبقى راكدة في القاع، تسدُّ المنافذ وتعوق الحركة؛ فيصبح الفضاء الإنساني -بداخلنا- عكراً لا حياة فيه ، لكن كما لصنبور مطبخك بالوعةٌ ينفذ منها الماء بعد غسيل الصحون، فهناك بالوعةٌ في عقلك لتصريف الهموم وهي البكاء.
أنا أؤكد لك; الهموم تتراكم! بالضبط كالتراكم الفيزيائي. لذلك أُعْطِينَا خياراً وهو أن نبكي لنخرج -بعض- هذه الهموم من عقولنا. لكن يتبقى الجزء الثاني من التخلص من الهموم وهو المواجهة — وسأتطرق إليه في حديث آخر.
ليس شرطاً أن تبكي وقت الحزن فقط! بعض الأخبار السعيدة – التي فيها يتغير مجرى الحياة غالباً – يجد الشخص فيها رغبةً ملحّةً للبكاء، وذلك لأن البكاء يعتبر في علم وظائف الأعضاء (الفيسيولوجيا) الإنسانية ردَّ فعلٍ شبه لاإرادي لأي موجةٍ عاطفيةٍ تمرُّ على الشخص، بغضِّ النظر عن كونها شيئاً سارّاً أو محزناً.
إن سألتني عن الكيفية ؛ فسأقول لك: البكاء فنٌّ !! ودليل ذلك أن الكثير منّا يسيء استخدامه، بأحد شكلين:
أولهما هو الكبت. كبت المشاعر مصيبة! وللأسف الكثير مننا يكبُت هُمومه غير مدرك لذلك… فلنفترض أنك أحضرت زجاجة ًوملأتها بالماء كاملة ً، ثم أجبرت المزيد من الماء إلى الدخول إليها دون السماح له بالنفاذ من فوهة القارورة. ماذا سيحدث؟ بوووم! تنفجر الزجاجة إلى أشلاء. لماذا؟ لأن الماء لم يستطع أن يخرج من المنفذ المتوفر، فصنع لنفسه منفذاً جديداً بالقوة. نفس الشيء يحدث لنا نحن: نمتلئ بالهموم لكن لا نبكي ولا نواجهها، ماذا سيحدث؟ بوووم! وتنبثق عند هذه اللحظة الهموم من منفذ جديد; كغضبٍ أعمى وإحباطٍ تامّ، بالإضافة إلى الرغبة بالإنتحار، أو حتى الجنون.
ثانيهما هو التباكِي. نسبةٌ ليست بالقليلة من الناس تبكي عند كل صغيرةٍ وكبيرةٍ، وهذا ضارٌّ أيضاً!! لأنه أصبح تهرّباً!! فيجد المتباكي راحته في البكاء، فيكثر منه. صحيحٌ أن البكاء يساعده في التخلص من همومه، ولكن مشاكله لن تَحلَّ نفسها. سيحتاج إلى أن يقف ويتصرّف، ويتعلم أن البكاء ليس غايةً، وإنما وسيلة.
أرأيت؟ نحن بحاجةٍ إلى البكاء بين الفينة والأخرى. أرجو أننا اتفقنا الآن على أن البكاء نافع ، فلنأتِ الآن إلى الجزء الذي سأطرح فيه السؤال المنشود: متى صار البكاء عيباً؟
البعض يرون في البكاء ضعفاً ووهناً… يضعون على جبهة الشخص الذي يبكي ملصق “قابل للكسر”… إن هذا خطأ!! لا يحق لأي شخص أن يحكم على أحد بصفةٍ ما حتى يمرّ بكل ما مرّ هو فيه. لعل هذا الذي يبكي أقوى منك في الواقع! ليس أقوى منك جسدياً -لأن القدرة الجسدية لم تكن ولن تكون مقياساً للقوة أبداً- وإنما في الروح والعزيمة!! قُوَّتُه كانت في استخدامه المنفذ الصحيح، فلِمَ لا نتعلم منه شيئاً قبل أن نسخر منه؟
لذا، نصيحتي لكل إنسان قرأ إلى هذا السطر: أرجوك، عندما ترى أخاك الصغير، أختك الصغيرة، أو ابنك الصغير يبكي… لا تمنعه ولا تزجره عن ذرف الدموع. ضمّه إليك وطمئنه بدلاً من أن تنهال عليه بالأوامر والنواهي مثل- كن رجلاً!- في وقتٍ هو في أمس الحاجة إلى الدعم المعنوي، وإلا ستجعل منه شخصاً مسدودَ البالوعة في المستقبل.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]