اربد
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

اربد

منتدى معلومات عامة
 
صفحة الاعلاناتالمنشوراتالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
دخول
اسم العضو:
كلمة السر:
ادخلني بشكل آلي عند زيارتي مرة اخرى: 
:: لقد نسيت كلمة السر

 

 مع الأديب التركي الساخر عزيز نسين

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
KLIM

KLIM



مع الأديب التركي الساخر عزيز نسين Empty
مُساهمةموضوع: مع الأديب التركي الساخر عزيز نسين   مع الأديب التركي الساخر عزيز نسين Icon-new-badge29/9/2011, 04:19

مع الأديب التركي الساخر عزيز نسين



عزيز نسين أديب تركي بارع في فن السخرية
ما أن تقرأ له كتابا واحد حتى تستبد بك الرغبة إلى ملاحقه
مجمل أعماله الروائية والمجموعات القصصية
هذا ما حصل معي وربما هو ما سوف يحصل معكم

يستمدا عزيز نسين مادة أعماله من الاوبئه الاجتماعية التي تستشري
في مجتمعه والتي تقارب كثيرا مشاكلنا ، من هنا مادته الخام
ومن ثمه مباشرته على وضعها في قالب كوميدي مذهل
عمل عزيز نسين رئيس تحرير لعددا من المجلات التركية
وحاز مرتين على جائزة السعفة الذهبية في مسابقة التأليف
الكوميدي وذلك في عام ١٩٤٦ و١٩٥٧ التي نظمت في إيطاليا
مما ذاع صيته عالميا،كم نال ايضا جوائز تقديرية في كل
من بلغاريا والاتحاد السوفيتي
وترجمت أعماله إلى عديدا من اللغات العالمية
كما ترجمت أيضا العديد من أعماله إلى اللغة العربية
منها التالي والذي يتوفر لدي
ولاشك أن هناك أعمال أخرى لاسيما وان اعماله
تفوق المئه عمل

أولا
:الروايات
سر نامة
الطريق الوحيد
بتوش الحلوة
يحيى يعيش ولا يحيا

ثانيا
: المجموعات القصصية
صراع العميان
قطع تبديل للحضارة
الاحتفال بالقازان

وهناك ايضا اعمال اخرى سوف نذكرها لاحقا
***
من قصص عزيز نسين


! الذئب اصله خروف


في مكان مجهول لا تعرف موقعه بسهولة يعيش راع وأغنامه وكلابه. لكن الراعي لا يشبه الرعاة الآخرين.. فهو لا يعرف للرحمة معنى. ولا يعتقد أن للألم وجوداً.. كان ظالما. يحمل بدل الناي صفارة.. وبيده هراوة. والنعاج - التي يحلبها ويجز صوفها ويبيع أمعاءها ويأخذ روثها ويسلخ جلدها ويأكل لحمها ويستفيد من كل ما فيها - لا يكن لها شفقة أو محبة.. يحلب الأغنام يوميا ثلاث مرات حتى يسيل الدم من أثدائها.. وعندما تشكو ذارفة الدموع من عينها ينهال عليها ضربا على رؤوسها وظهورها.

لم تحتمل النعاج وحشيته فكانت تتناقص يوما بعد يوم.. لكنه ازداد قسوة.. فقد كان على العدد المتناقص من الأغنام أن يعوضه عن كل ما هرب أو مات من القطيع.. وقد فقد الراعي عقله وجن لأنه كان يحصل على حليب وصوف أقل مما كان يحصل عليه. وراح يطارد الأغنام المتبقية في الجبال والسهول حاملا هراوته في يده. ومطلقا كلابه أمامه. كان بين الأغنام خروف نحيف كان الراعي يريد حلبه والحصول منه على حليب عشرين جاموسة.. وكان غضبه أنه لا يحصل على قطرة حليب منه.. لأنه ببساطة خروف. وليس نعجة.. وفي يوم غضب الراعي منه وضربه ضربا مبرحا جعله يهرب أمامه.. فقال له الخروف : «ياسيدي الراعي أنا خروف قوائمي ليست مخصصة للركض بل للمشي.... الأغنام لا تركض. أتوسل إليك لا تضربني ولا تلاحقني ». لكن الراعي لم يستوعب ذلك ولم يكف عن ضربه.. ومع الأيام بدأ شكل أظلاف الخروف يتغير لكثرة هروبه إلى الجبال الصخرية والهضاب الوعرة للخلاص من قسوة الراعي القاتل.. طالت قوائمه ورفعت.. فازدادت سرعة ركضه هربا لكن الراعي لم يترك إليته.. فاضطر الخروف للركض أسرع. ولكثرة تمرغه فوق الصخور المسننة انقلعت أظلافه ونبتت مكانها أظافر من نوع آخر.. مدببة الرأس ومعقوفة.. لم تعد أظافر بل مخالب.

مرة أخرى لم يرحمه الراعي فواصل الخروف الركض فكان أن شفط بطنه إلى الداخل واستطال جسمه وتساقط صوفه.. ونبت مكان الصوف وبرة رمادية قصيرة وخشنة. وأصبح من الصعب على الراعي أن يلحق به.. لكن ما ان يلحق به حتى يواصل ضربه وإهانته. وهو ما جعل الخروف يرهف السمع حتى يستعد للهرب كلما سمع صوت قدوم الراعي أو كلابه. ومع تكرار المحاولة انتصبت أذناه وأصبحت مدببة قابلة للحركة في كل إتجاه.. على أن الراعي كان يستطيع أن يصل إليه ليلا وضربه براحته فالخراف لا ترى في الظلام.. وفي ليلة قال الخروف له : سيدي الراعي.. أنا خروف.. لا تحاول تحويلي إلى شيء آخر غير الخروف.. لكن الراعي لم يستوعب ما سمع.. فكان أن أصبح الخروف يسهر ليلا ويحدق بعينه في الظلام.. ولكثرة تحديقه كبرت عيناه وبدأت تطلقان شررا.. وغدت عيناه كعودي كبريت في الليل.. تريان في الظلام أيضا.

كانت نقطة ضعف الخروف هي إليته.. فهي ثقيلة تعطله عن الركض. لكن.. لكثرة الركض ذابت إليته واستطالت. وفي النهاية أصبحت ذيلا على شكل سوط. ورغم فشل الراعي في اللحاق به فإنه كان يلقي الحجارة عليه ويؤلمه.. وكرر الخروف على مسامع الراعي : «إنني خروف يا سيدي.. ولدت خروفا.. وأريد أن أموت كبشا.. فلماذا تضغط علي كي أتحول إلى مخلوق آخر ؟».

لم يكن الراعي يفهم..فبدأ الخروف يهاجم الراعي عندما كان يحصره في حفرة ما لحماية نفسه من الضرب. وغضب الراعي أكثر.. فضاعف من قسوته بجنون لم يشعر به من قبل.. فاضطر الخروف أن يستعمل أسنانه. لكنه لم يستطع ذلك لأن أسنانه داخل ذقنه المفلطحة. وبعد محاولات دامت أياما بدأت أسنانة تنمو. وفيما بعد استطال لسانه أكثر. واصبح صوته غليظا خشنا. ولم يستوعب الراعي ذلك.. وواصل ما يفعل وبالقسوة نفسها.

ذات صباح شتوي استيقظ الراعي مبكرا ليجد المكان مغطى بالجليد. وتناول هراوته التي سيحث بها نعاجه المتبقية على حليب عشر بقرات وذهب إلى الزريبة. لكن ما ان خرج من الباب حتى وجد بقعا من الدم الأحمر فوق الثلج.. ثم رأى أشلاء أغنام متناثرة.. لقد قتلت كافة النعاج ومزقت. ولم يبق منها ولا واحدة.. وظلل عينيه بيديه ونظر بعيدا فرأى الخروف.. كان الخروف قد مد قائمتيه الأماميتين قدامه وتمدد بجثته الضخمة على الثلج وهو يلعق بلسانه الطويل الدماء من حول فمه. ثمة كلبا حراسة يتمددان على جانبيه دون حراك.. ونهض الخروف وسار بهدوء نحو الراعي.. كان يصدر صوتا مرعبا.. وبينما الراعي يتراجع إلى الخلف مرتجفا قال متمتما : «يا خروفي.. ياخروفي.. ياخروفي الجميل ». عوى الخروف قائلا : «أنا لم أعد خروفا » كرر الراعي ما قال.. عوى الخروف قائلا : «في السابق كنت خروفا. ولكن بفضلك أصبحت ذئبا». وجرى وراءه.

كيف الطقس اليوم؟



عزيز نيسن
ت.بكر صدقي

عليّ أولاً أن أعرفكم بسعدي بيك بصورة جيدة. ثمة نوع من الناس يقال فيهم إنهم "مثل بعر الأرنب لا يفوح ولا يلوث" إن سعدي بيك هو المثال الأفضل على هذا النوع. لا في العير ولا في النفير، لا للصيف ولا للضيف. فإذا سألته "كم حزباً في البلد؟" فهو لن يجيبك حتى بـ"لا أعرف" بل يكتفي برفع كتفيه وزمّ شفتيه.‏

هو رجل رزين ومهذب، يكبرني بعشر سنوات لكنه يبدو بعمر أبي لشدة رزانته ورصانته، لا يمكنك اقتلاع الكلمة من فمه إلاّ مثل اقتلاع الضرس الملتهب، فهو يكاد لا يتكلم أبداً.‏

يقيم مع زوجته وابنته في قصر صغير عتيق في "أرن كوي" ورثه عن أبيه ولا يؤجر أياً من أجنحته على أمل أن يحصل لابنته على صهر يقيم معهم.‏

ألتقي به كل صباح، فإذا لم يحدث ذلك في القطار، حدث حتماً في عبّارة الساعة التاسعة التي تنطلق من "حيدر باشا".‏

اضطررت لملازمة الفراش خمسة عشر يوماً بسبب المرض، وفي اليوم الأول لعودتي إلى العمل بعد إبلالي من المرض ترجلنا، سعدي بيك وأنا، سوية من القطار ومشينا باتجاه العبّارة، وإذ بأحد المعارف يمر بنا ويقول لسعدي بيك:‏

ـ كيف الطقس يا سعدي بيك؟‏

ثم تابع طريقه من غير أن ينتظر جواباً من سعدي بيك. ثم لحق بنا واحد آخر وقال وهو يهبط السلالم الرخامية:‏

ـ مرحباً سعدي بيك.‏

ـ أهلاً..‏

ـ كيف الطقس يا سعدي بيك؟‏

قال الرجل ذلك وهرب مبتعداً، وكان واحداً من زملائنا. نظرت إلى وجه سعدي بيك، فوجدته شاحباً مثل كلس مزج بطلاء أخضر...‏

ثم سمعنا أصواتاً ساخرة خلفنا:‏

ـ كيف الطقس يا سعدي بيك؟‏

ـ كيف الطقس يا سعدي بيك؟‏

كان غضب سعدي بيك يتصاعد، لكنه يحاول إخفاءه. صعدنا إلى العبّارة وجلسنا في القاعة السفلى. قال رجل يجلس على مقربة:‏

ـ مرحبا سعدي بيك.‏

لم أكن على معرفة بهذا الرجل المسن والمتأنق. ردّ عليه سعدي بيك التحية:‏

ـ أهلاً يا سيدي.‏

ـ كيف الحال يا سيدي؟‏

ـ شكراً لكم. الحمد لله.‏

ـ أوه! أوه! أنعم الله عليكم بالصحة والعافية. كيف الطقس؟‏

قفز سعدي بيك من مكانه كالسهم، التقط قبعته وابتعد فخرجت معه لأنه رفيق طريقي لسنوات. وقفنا جنباً إلى جنب في مؤخر العبّارة. عرفت أنه مستاء جداً من شيء ما لكني تجنبت سؤاله خشية أن يزعجه السؤال. التزمنا الصمت حتى وصلت العبّارة إلى المرفأـ حيث سأله عدد من الأشخاص عن الطقس ونحن نترجل من العبّارة.‏

بدأت أغتاظ بدوري، وأردت التدخل لكني لم أفعل لأنني لا أعرف ما هو الموضوع. ولم يكن الغيظ يناسب هذا الرجل المهذب. سألته بعد أن صعدنا إلى الأتوبيس معاً:‏

ـ ما الأمر يا سعدي بيك؟ لماذا يسألك الجميع عن أحوال الطقس؟‏

نظر في وجهي نظرة ارتياب ثم قال:‏

ـ ألا تعرف؟‏

ـ لا... لا أعرف.‏

ـ سأحكي لك هذا المساء على العبّارة.‏

افترقنا عند أول النفق.‏

بقيت متشوقاً لما سيحكيه لي سعدي بيك، ولم يبرح خيالي مشهد وجهه الغاضب وهو الرجل اللبق المهذب ذو الأعصاب الباردة. إذن فقد حدث معه شيء ما في غضون الأسبوعين اللذين قضيتهما طريح الفراش.‏

التقينا في المساء عند جسر مرفأ "قاضي كوي". قال لي:‏

ـ يحسن بنا ألا نستقل هذه العبّارة.‏

فهمت أنه يريد انتظار العبّارة التالية خشية التعرض لسخريات معارفه اللذين يستقلون هذه العبّارة.‏

كان ثمة بائعو سمك طازج على القوارب، اشترى منهم سعدي بيك كيلو ونصف من السمك، تمشينا لبعض الوقت على المرفأ، ثم ركبنا عبّارة الثامنة وعشر دقائق. السمك المبلل كاد يثقب أسفل الكيس الورق الذي تشبّع بالماء. وهكذا جلسنا فوق السطح وسعدي بيك يمسك بكيس السمك بحرص. قال لي:‏

ـ أنت لا تعرف إذن؟‏

في تلك اللحظة قال أحدهم:‏

ـ كيف الطقس اليوم يا سعدي بيك.‏

نهض سعدي بيك من مكانه دون أن يتفوه بكلمة واحدة. هبطنا معاً إلى الأسفل وقصدنا مؤخّر العبّارة حيث استند سعدي بيك إلى الدرابزين وجلست على المقعد الخشبي المجاور، وقد أمسك بكيس الورق بحرص شديد. قال لي:‏

ـ إياك وإياك! إذا فتح أحدهم حديثاً عن الطقس فاهرب منه على الفور! فإذا حدث وسألك عن الطقس فلا تنبس ببنت شفة، فليسأل ولكن لا تجبه. ذلك أنهم يبدؤون الكلام بهذه الطريقة أي بالسؤال عن أحوال الطقس ثم يستدرجون المرء ويقحمونه في ورطة. الرجل الذي أمامك يبدأ بكلمة الطقس فلا ترى خطراً في الحديث عن أحوال الطقس. بعد ذلك ينتقل من الطقس إلى الماء وإذ بموضوع الحديث ينزلق إلى الأرض. ثم... وإذ بك متورطاً بلا وعي في حديث... إياك! انتبه حماك الله... ها أنت في ورطة...‏

حدث ذلك منذ حوالي عشرة أيام... ركبت القطار من محطة "أرن كوي" كعادتي كلّ يوم. جاء شخص وجلس بجانبي. مضى بنا القطار بضع دقائق ونحن صامتان. ثم قال الرجل:‏

ـ الطقس يزداد سوءاً هذه الأيام.‏

لم أتفوه بكلمة لأنني لا أحبّ الناس الفضوليين من أمثاله. قال بعد قليل:‏

ـ الجوّ ينذر بالسوء، أليس كذلك يا سيدي؟‏

خجلت من الاستمرار بالصمت فقلت له:‏

ـ نعم.‏

لعنة الله عليّ إن كنت تفوّهت بأية كلمة أخرى.‏

بعد ذلك قال الرجل:‏

ـ يبدو أنها لن تمطر أبداً هذا العام.‏

الرجل يمد صحنه لالتقاط الكلام من فمي وأنا أجيبه بالصمت.‏

ـ أليس كذلك يا سيدي؟ الظاهر أنها لن تمطر أبداً هذا العام.‏

لا أخرجني الله حياً من هذه العبّارة إن كنت أكذب عليك، لقد أجبته بكلمة واحدة أيضاً:‏

ـ نعم.‏

وكيف أقول "لا" يا أخي؟ فهو يقول لي: "يبدو أنها لن تمطر"، فهل أرد عليه بالقول:‏

"لا، سوف تمطر"؟ فما أدراني إن كانت ستمطر، أم لا؟ هذه المرة انتقل الرجل إلى الحديث عن الماء، قال:‏

ـ لدينا شح في الماء... الوضع سيئ جداً‏

أنا صامت.‏

ـ أليس كذلك يا سيدي، لدينا شح في الماء؟‏

ـ نعم.‏

ـ إذا لم تهطل الأمطار سنشهد محلاً. هذا العام لدينا محل. يقال إن الأناضول تحترق من الجفاف.‏

ثم يضغط عليّ لأؤكد على كلامه:‏

ـ أليس كذلك يا سيدي؟‏

ـ نعم.‏

ـ سوف نضطر لشراء القمح من الخارج.‏

عندما رأى أنني لم أقل شيئاً، ألحّ قائلاً:‏

ـ سنشتري، أليس كذلك يا سيدي؟‏

ـ وهل أنا وزير التجارة يا أخي؟ مالي أنا إن اشترينا قمحاً أو شعيراً‏

ـ سنشتري أليس كذلك يا سيدي؟‏

ـ نعم.‏

ـ لا يمكن إدارة الأمور على هذه الصورة. إن الحكومة عاجزة عن إدارة هذه الأمور.‏

بدأنا من الطقس وانتهينا إلى الحكومة. هل يمكن للحكومة أن تخطر على البال إذا كان الحديث يدور عن الطقس؟ أترى من أين وإلى أين؟‏

ـ إن الحكومة عاجزة عن إدارة الأمور، أليس كذلك يا سيدي؟‏

بما أن الأمور وصلت إلى الحكومة، لم أجبه حتى بنعم هذه المرة. الطقس... فهمنا، والماء... فهمنا أيضاً، ولكن ما شأننا بالحكومة؟ التزمت الصمت، لكن الرجل لكز خاصرتي وصرخ قائلاً:‏

ـ أليس كذلك؟‏

ـ نعم.‏

ذلك أنه سيلكزني ثانية إذا لم أرد عليه.‏

ـ الأسعار ترتفع باطراد. ماذا سيحل بهذا الشعب؟‏

كان بوسعي أن أقول له: لا، الأسعار لا ترتفع، بل تنخفض يوماً بعد يوم". لكن ذلك يقتضي طق الحنك مع الرجل. قلت له بهدف التخلص منه:‏

ـ نعم.‏

ـ سوف ننتهي إلى وضع كارثي.‏

إنه يفاقم من خطورة الكلام باطراد. التزمت الصمت بلا مبالاة، فقال:‏

ـ أليس كذلك يا سيدي؟‏

تابعت تجاهلي فلكزني مرة أخرى، فقفزت من مكاني وأنا أطلق أنّة.‏

ـ أليس كذلك يا سيدي؟‏

ـ نعم.‏

إذا لم أرد على سؤاله فسوف يوجه لكمة إلى أنفي ويسألني: "أليس كذلك؟". انتباهي منصرف إلى الخارج من خلال النافذة. لكننا لم نصل بعد إلى محطة حيدر باشا، حتى أنزل من القطار وأتخلص من الرجل.‏

تمادى الرجل وتمادى حتى تجاوز كل الحدود، ومن حين لآخر أردت أن أجيبه بـ"لا"ـ لكن ذلك يعني الدخول معه في جدال بين نعم ولا، في حين أنني لست بوارد جدال من هذا النوع.‏

يحكي ويحكي ويحكي، ثم يسألني:‏

ـ أليس كذلك يا سيدي؟‏

فإذا التزمت الصمت لكزني فأطلقت أنّة وملت جانباً، وقد حشرني الرجل لُصق النافذة فلم يعد بإمكاني أن أهرب وأنجو بجلدي. لم يبق أمامي إلا القفز من النافذة.‏

الرجل يحكي بلا توقف، ثم يضرب بيده على ركبتي ويسألني:‏

ـ أليس كذلك يا سيدي؟‏

فأمسّد مكان الضربة وأجيبه:‏

ـ نعم.‏

ثم يمسكني من كتفي ويهزني:‏

ـ أليس كذلك يا سيدي؟‏

ـ نعم.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
KLIM

KLIM



مع الأديب التركي الساخر عزيز نسين Empty
مُساهمةموضوع: رد: مع الأديب التركي الساخر عزيز نسين   مع الأديب التركي الساخر عزيز نسين Icon-new-badge29/9/2011, 04:20


كنت لأفضل لو بطحني على الأرض وضربني.. قصارى القول أننا وصلنا أخيراً محطة حيدر باشا بين لكز وصفع ولكم وشد ودفع وهز، والحمد لله...‏

عندما ترجلنا من القطار اختفى الرجل في الزحام، أما أنا فلم أرفع رأسي عن الأرض خشية أن أراه من جديد.‏

في اللحظة التي أردت فيها الصعود إلى العبّارة نقرت يدٌ على كتفي ثلاث مرات، التفتَ وإذ به شرطي، قال لي:‏

ـ تفضل معي إلى المخفر لحظة لو سمحت.‏

عندما سمعت كلمة المخفر ارتبط لساني، فأنا لم أدخل قسم شرطة في حياتي، ولا أعرف ما يكون، ولكن ما العمل... ذهبت معه إلى المخفر، وماذا رأيت هناك؟ رأيت الرجل الذي واظب على سؤالي: "أليس كذلك يا سيدي؟" مبتسماً بالإضافة إلى راكبين كانا يقتعدان المقعد المواجه لمقعدنا.‏

ظننت أن الراكبين قد أشفقا عليّ بعد رؤيتهما لذلك الرجل وهو يلكزني ويلكمني طوال الرحلة فقدما شكوى ضده، والله أعلم. قلت للمفوض:‏

ـ أولاً أنا لست مدعياً على أحد.‏

فقال المفوض:‏

ـ ولكن ثمة من هو مدع عليك، هذا الرجل قدم شكوى ضدك.‏

يا سلام! أنت تجيب بنعم على كل ما يقوله الرجل، فيقوم هو بتقديم شكوى ضدك! هل سمعت بما يشبه هذا؟‏

قال الرجل:‏

ـ نعم، لقد شتم الحكومة بكل ما يخطر على البال من شتائم، وهذا السيدان شاهدان على ما أقول.‏

ثم حكى كل ما قاله لي أثناء الرحلة ناقلاً إياه على لساني، قلت:‏

ـ أنا لم أقل هذا الكلام، بل هو الذي قاله.‏

وقال الشاهدان:‏

ـ نعم هو الذي قال الكلام، أما هذا الرجل فقد وافق على كل الكلام بنعم ونعم ونعم.‏

قال الرجل:‏

ـ لقد تحدثت بتلك الطريقة بقصد اختبار نواياه.‏

إذن فسوف أهلك بين الأرجل فقط لأنني قلت نعم.‏

أمسك سعدي بيك بكيس الورق المملوء بالسمك في حضنه وقال:‏

ـ السمكات تكاد تسقط فقد انفتح أسفل كيس الورق.‏

كان يمسك أسفل كيس الورق في راحتيه. سألته:‏

ـ ماذا حدث بعد ذلك يا سعدي بيك؟‏

ـ سجلوا إفاداتنا، والآن سنذهب إلى المحكمة.‏

ـ ولكن لماذا قدّم ذلك الرجل شكوى ضدك؟‏

لقد ثار فضولي مثلك لمعرفة ذلك، فسألته السؤال نفسه عندما خرجنا من المخفر.‏

فأجابني قائلاً:‏

ـ حينما كنت تجيبني بنعم لم تكن تفعل ذلك عن طيب خاطر، فخفت أن تشي بي، فسبقتك إلى المخفر بمجرّد نزولي من القطار.‏

فقلت له:‏

ـ حسناً يا أخي ما دمت خائفاً إلى هذه الدرجة، لماذا إذن تتمادى في الكلام وتضرب يميناً وشمالاً؟‏

ـ وماذا أفعل، فأنا غير قادر على ضبط لساني، يحدث هذا رغماً عني.‏

إذن، إياك ثم إياك! لا أحد قادر على تمالك نفسه في هذه الأيام. كل واحد يبحث عن أحد يشكو له همّه، وليس من المعقول أن يقف وسط الناس ويخطب فيهم بصورة مباشرة. لذلك فهو يبدأ بالحديث عن الطقس مع أي شخص قربه.‏

الطقس ثم الماء... ثم تنتهي الأمور بهذه الطريقة. هل فهمت؟ إذا حدث وذكر لك أحدهم كلمة الطقس، فاهرب منه فوراً ولا تدعه يكمل كلامه، وإلا وجدت نفسك في ورطة مثلي.‏

ضحكت، ثم لم أتمالك نفسي عن سؤاله:‏

ـ كيف الطقس اليوم يا سعدي بيك؟‏

لم أكد أكمل جملتي حتى ضرب سعدي بيك على رأسي بكيس الورق المملوء بالسمك. في الوقت الذي ألقيت فيه بالسمك من فوق رأسي وثيابي، كان سعدي بيك قد اختفى عن الأنظار.‏



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
KLIM

KLIM



مع الأديب التركي الساخر عزيز نسين Empty
مُساهمةموضوع: رد: مع الأديب التركي الساخر عزيز نسين   مع الأديب التركي الساخر عزيز نسين Icon-new-badge29/9/2011, 04:21

بيت هادئ



عزيز نيسن
ت.فاروق مصطفى


قال: إنك تكتب بشكل ممتاز‏

خطر ببالي أن أردّ عليه الردّ التقليدي الذي يردّه الكتَّاب عندما تطرى أعمالهم، شكراً لكم لكني عدلت عن ذلك، وقلت‏

ـ بإمكاني أن أكتب ما هو أفضل، لكن البيت غير مناسب.‏

ـ كيف؟‏

ـ أفي ذلك كيف؟ البيت صغير، والأسرة كبيرة، والضجيج والضوضاء دائمين، وكما تعلمون فالكتابة عمل فكري يتطلّب هدوءاً.. في اللحظة التي يأتيك فيها الإلهام تماماً، يأتي الصغير شاكياً أخاه الكبير بابا انظر إلى هذا .. أبعده عني، يصرخ الأصغر منه، أسكته. يبدأ من هو أصغر، أثناءها يدخل الكبار ببعضهم.. ينتفخ رأسي، وطبعاً لا يمكن كتابة شيء مميز برأس منتفخ كالطنجرة.‏

سالني:‏

ـ كم ولداً لديك؟‏

ـ أحد عشر!‏

كنت أظن أنه سيقول لي (أدامهم الله) عندما ترامت إلى مسامعي كلمة هووش ش ش !‏

هل توجهون هذه الكلمة لي؟‏

استشطت غيظاً، وإذا كان قد قالها لي فسوف أدوسه بقدمي.‏

ـ أنت تأخذ الأمور دوماً على أنها موجهة إليك.‏

ـ لا يوجد أحد غيرنا، لذلك ظننت..‏

ـ الانفعال طبع سيء في المرء. فلو صدر صوت قبيح من محرك سيارة مارة في الطريق، يهجم الانفعالي على السيارة وهو يقول (أتوجّه هذا لي أو لك؟) خطر أحدهم ببالي فجأة، فقلت هوش. والآن لنعد إلى موضوع الأولاد.. إن أحد عشر ولداً كثير على الكاتب. بل إن ولداً واحداً كثير عليه.. على الكاتب أن لا يصنع أولاداً لأنهم يشغلون وقته.‏

ـ صنع الولد لا يستغرق وقتاً، لكن تربيته صعبة.‏

ـ يجب أن لا يكون للكاتب أولاد، لماذا؟ لأن كلَّ إنسان يستطيع أن يصنع أولاداً، لكن لا يستطيع كل إنسان أن يؤلِّف كتاباً.‏

ـ ماذا أفعل، لدي الآن أحد عشر ولداً، بل أحد عشر ولداً ونصف.. فهناك واحد على الطريق..‏

ـ كم من الزمن يستغرق إنجاز كتابك المميّز، فيما لو كنت تعيش في بيت لوحدك؟‏

ـ في رأسي أفكار كثيرة بحيث أستطيع إنجاز كتاب كل شهرين، لو تسنى لي بيت هادئ كما أريد.‏

ـ أعطيت وانتهيت.. إني أعطيك بيتي لمدة ستة أشهر.‏

ظننته في البداية يمزح، لكني صدقته عندما اصطحبني بسيارته إلى البيت، لم يكن بيتاً، كان قصراً فخماً، ذبت وتلاشيت عندما رأيته قال:‏

ـ نحن نمضي الشتاء في نيشان طاش، وقد انتقلنا إلى هناك البارحة، وهذا البيت لك لمدة ستة أشهر، حتى شهر أيار القادم، هيا أرني همّتك، أنجز كتابك القيّم لأراك.. وأكون بذلك قد ساهمت أنا أيضاً ولو قليلاً في الحركة الأدبية العالمية..‏

كنت مدهوشاً، قال وهو يغادر البيت:‏

ـ لي رجاء واحد فقط، إذ يوجد في الحديقة كلب حراسة كبير، وفي البيت جرو صغير، تعتني بهما، وهناك كناري في بهو البيت.‏

ـ أنا أحب الحيوانات.‏

ترك لي الرجل قصره الفخم ومشى. لو رأيت ذلك في الحلم لما صدقت. تجولت في أرجاء الحديقة أولاً، ثم في أنحاء القصر من أوله لآخره، كان يخيّم على المكان هدوء لا يوصف، هدوء تسمعه الآذان، وتراه العين.. هدوء يكاد يلمس باليد.‏

صعدت إلى الطابق العلوي، كان منظر المروج من فوق، جميلاً آسراً لا يمكن وصفه... بحيث قلت لنفسي عندما جلست إلى الطاولة:‏

ـ إيه! ولك هنا حتى الحمار يصبح شاعراً..‏

بهذه الحماسة تشبثت بقلمي، ولم يكن القلم قد مسّ الورق بعد، عندما رنّ جرسٌ. القصر كبير، نظرت هنا، ونظرت هناك، لم أعرف مصدر صوت الجرس.‏

بحثت في غرف الطابق العلوي أولاً، ولم أجد فيها ما يشبه الجرس، لكن الجرس لا يزال يرن، واضح أنه جرس الهاتف، بحثت ومشّطت المكان تمشيطاً.‏

أخيراً عثرت على الهاتف في الطابق الأوسط التقطت السماعة ووضعتها على أذني، لا صوت. والجرس لا يزال يرن، إذن فليس الهاتف هو الذي يرن.‏

أيمكن أن يكون في البيت هاتف آخر؟‏

ركضت في هذا الاتجاه، وركضت في ذاك الاتجاه، واكتشفت أخيراً أن جرس الباب هو الذي يرن، كان القادم بائع الصحف.‏

ـ لا داعي! من الآن فصاعداً لا داعي للصحف!..‏

أغلقت الباب، وعدت ثانية لأجلس خلف طاولتي. وفيما كنت أمسك القلم بيدي، رنّ جرس مرة أخرى، نزلت سلالم الطابقين، ولكن لا أحد بالباب هذه المرة.‏

أيكون الأولاد هم الذين يقرعون الجرس ويهربون؟ لا أحد بالباب. لكن الجرس لا يزال يرن. كان جرس باب الحديقة الخلفي هو الذي يرن هذه المرة. إنه بائع الحليب.‏

ـ لا داعي! من الآن فصاعداً للحليب! لا تحضر لنا حليباً!‏

ـ يوجد حساب أسبوع.‏

الرجل ترك لي قصره الفخم لمدة ستة أشهر دون أن يأخذ أجرة ولو عشر ليرات.. دفعت حساب الحليب.‏

صعدت إلى الطابق العلوي، وقبل أن يمس القلم الورقة، رنّ جرس ثانية، ركضت إلى الباب الأمامي أولاً، ثم إلى الباب الخلفي. لا يوجد أحد.‏

كم باباً لهذا القصر؟‏

ـ أدور وأبحث، لا يوجد باب آخر.. الجنون ليس باليد. لابد أنهم أولاد عديمو التهذيب! عندما أركض إلى الباب الأمامي، يقرعون جرس الباب الخلفي، وعندما يرن جرس الباب الأمامي، أفتح الباب الخلفي لأفاجئهم، وإذ بعديمي التربية قد هربوا. وفجأة خطر الهاتف ببالي.. أوه.. إنه جرس الهاتف الذي يرن.‏

ـ ألو، تفضلوا...‏

ـ نازان خانم من فضلكم.‏

ـ ليسوا هنا يا سيدتي.‏

لم تمرّ فترة على جلوسي إلى طاولتي. ترن ن ن .. الجرس مرة أخرى ركضت إلى الهاتف أولاً، ليس هو، هرعت إلى الباب، وإذا بساعي البريد، استلمت منه الرسالة. وفيما كنت أصعد السلالم، رنّ جرس مرة أخرى.‏

ركضت إلى البابين، لا أحد، نظرت إلى الهاتف، ليس جرس الهاتف، وفيما كنت أصعد وأنزل باحثاً، وإذ بصوت طائر:‏

ـ غوغوك.. غوغوك.. غوغوك!‏

إنها ساعة حائط، إذ كانت هناك ساعتا حائط على جداري الصالة المتقابلين إحداهما جرسها يرن، والثانية طائرها يغرّد. انتهت نوبة عزف الساعتين وإذا بجرس الهاتف يرن.‏

ـ نازان خانم من فضلكم.‏

ـ نازان خانم ليسوا هنا يا سيدتي، لقد انتقلوا إلى استانبول.‏

وفيما كنت واقفاً في الصالة حائراً مشدوهاً، وأنا أسبح في عرقي من كثرة ما جريت وراء الأجراس من فوق لتحت، ومن تحت لفوق.. جاءني صوت:‏

ـ دان... دان... دان!‏

أنا لا أفهم، كم جرساً يكون في البيت، وكم صوتاً، وكم ساعة تكون فيه! هذه المرة كانت ساعة حائط المدخل هي التي تدق.‏

تلفت وانتهيت من الجري هنا وهناك!..‏

تارة يرن جرس هذا الباب، وتارة جرس الباب الآخر... وفيما أنا أركض نحو الأبواب، يرن جرس الهاتف. أصابني ارتباك، بحيث صرت أركض وراء صوت جرس، لأجد أنها دقات ساعة.‏

في هذه الأثناء رن جرس آخر... كان اكتشاف مصدر صوت الجرس مستحيلاً هذه المرة. إذ كان جرس دراجة طفل صغير مر من أمام البيت بدراجته.‏

حل الليل، ولم أستطع كتابة كلمة واحدة. لكني أظن أني قطعت أربعين كيلو متراً جيئة وذهاباً داخل البيت، صعوداً ونزولاً جرياً وراء رنين الأجراس..‏

فقد جاء كل رجال وعمال الخدمات، من البقال حتى بائع زجاجات الماء. ورنّ الهاتف ثلاثين أو أربعين مرة. استلقيت على الفراش متعباً منهوكاً، وتمددت مثل ميت.‏

قلت لنفسي:‏

ـ اليوم الأول يكون هكذا، والآن علِم الجميع أن لا أحد في البيت، وغداً لن يرن أي جرس.. وسأكتب كتاباتي,.‏

لم تكد عيناي تغفوان حتى سمعت صوتاً لكنه ليس صوت جرس، شيء مثل مييك، مييك، مييك، لم أستطع تشبيهه بأي صوت أعرفه. أنا اعتدت رنين الأجراس ورضيت بها منذ زمن. رنين جرس، لابأس، لا تفتح الباب، ولا ترد على الهاتف، يتوقف الرنين بعد برهة، لكن هذا الصوت لا يتوقف أبداً، سحبت اللحاف فوق رأسي، ما صار، سددت أذني بأصابعي دون جدوى، بدأت البحث عن مصدر الصوت.. هذه الغرفة لك، وتلك الغرفة لي.. أخيراً أليس هو صوت الجرو الصغير في الحمام؟‏

سكت الجرو المسكين عندما رآني، وراح يلف ويدور عند أسفل رجلي. واضح جداً أنه جائع، وضعت ما وجدته في المطبخ أمامه، وعدت إلى الفراش.‏

توقف رنين الأجراس، لكن دقات الساعات لا تتوقف، والجرو لا يسكت، وبين الفينة والفينة كان الهاتف يرن.‏

انتصف الليل. حاولت تعطيل الساعات واسكاتها لم تسكت... والجرو يهمر كلما ابتعدت عنه. أحضرته إلى غرفة النوم فصار يهمر كلما دخلت الفراش.‏

أحببته، داعبته، رجوته، لا يسكت، أخيراً أخذته إلى جانبي في الفراش فسكت.‏

سكت الجرو، فبدأ كلب الحراسة في الحديقة ينبح:‏

ـ عو، عو، عو..‏

سأجن.. لا، لن أجن، لقد جننت.‏

ـ اسكت ولك كلب ابن كلب اسكت.. اسكووت!...‏

حين أركض إلى النافذة لإسكات الكلب الكبير، يهمر الصغير، أصبح الصباح وأنا منشغل بالكلاب والساعات، وعندما أشرقت الشمس، بدأت أصوات الدجاجات، وبدأ صياح الديكة في الحديقة، كنت على درجة من الإعياء بحيث لم أهتم بأصوات الدجاج.‏

ـ جييك، جييك، جيييك..‏

أمسكت قفص الكناري الذي فوق رأسي ورميته في الحمام، وأغلقت الباب عليه. لم أكد أغفو عشر دقائق أو أقل، وإذ بي أهبّ من نومي فزعاً على صوت غليظ ظررر. فكّروا كم كنت مرتبكاً! فقد صعدت إلى السقيفة.. وهناك ثبت إلى رشدي وبدأت أفكّر، أنا لن أستطيع أن أكتب سطراً واحداً في هذا القصر، أين الأولاد. أنا قربان لهم.. على الأقل عندما تقول اسكت، فإن الولد يخاف ويسكت. لكن هل تفهم الكلاب والساعات من اسكت؟ وهل تخاف الأجراس؟ طيب، ولكن هم ماذا يفعلون في هذا البيت؟ إن شخصين لا يكفيان للجري وراء أصوات الأجراس. يا له من بيت هادئ هذا الذي عثرنا عليه!‏

سأذهب إلى الرجل الذي أسدى إليّ معروفاً وترك لي قصره، وأقول له:‏

ـ لقد عدلت، عليك أن تستأجر رجلاً لطيورك وكلابك!‏

أغلقت باب البيت، ومشيت مغادراً، وإذ برجل يقول لي:‏

ـ أهلاً وسهلاً! هل أنتم الذين ستحرسون القصر هذا الشتاء؟‏

كنت متضايقاً، ولكي أصرف الرجل عني، أجبته:‏

ـ نعم!‏

ـ بكم؟‏

ـ بكم ماذا؟‏

ـ إحذر من أن تحرس بأجر زهيد، فقد استأجروا العام الماضي حارساً بخمسمئة ليرة، وكاد الرجل يجن، فهذا القصر اسمه قصر الأجراس.‏

دخلت كالريح على الرجل الذي أسدى إلي المعروف، وكان عنده في المكتب رجل آخر، وقلت له:‏

ـ لقد عدلت عن هذا العمل.‏

ـ لماذا؟‏

ـ قصر ضخم، لا إنس فيها ولا جن.. إنه هادئ جداً يا أخي سأنفجر.‏

ـ كنت أعرف ذلك. فأنت معتاد على الضوضاء والضجيج، ولا تستطيع العمل في مكان هادئ..أنا أعرف هؤلاء الكتّاب! كلهم يبررون بقولهم:‏

"لو تهيأ لنا مكان هادئ لكتبنا كذا، وكتبنا كذا.." وعندما يتاح لهم المكان الهادئ، يقولون لقد تضايقنا.. هؤلاء هكذا، ليس لديهم شيء يكتبونه، ولذلك...‏

أسرعت بالخروج مغادراً، كي لا أرتكب جريمة.‏

ذهبت إلى بيتي، وهناك قلت أووووه، قلت ذلك، لكن رنين الأجراس ما زال يرن في أذني.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
KLIM

KLIM



مع الأديب التركي الساخر عزيز نسين Empty
مُساهمةموضوع: رد: مع الأديب التركي الساخر عزيز نسين   مع الأديب التركي الساخر عزيز نسين Icon-new-badge29/9/2011, 04:22

لا تخف



للكاتب التركي عزيز نسين
نقلها عن التركية جمال دورمش
دخل رجل في الأربعين من العمر منحشرا بين دفتي بوابة حديدية كبيرة، أسمر، هزيل ونحيف لدرجة أن أنفه قياسا الي وجهه يبدو ضخما، يرتدي نظارتين طبيتين.
بينما كان الخفير يقف أمام دفتي الباب العالي ينظر الي الأعلي متجاهلا وجود أي مخلوق هنا. اقترب منه الرجل بخطوات متثاقلة، ثم أخرج من جيب سترته محفظته ومنها ورقة مطوية أربع طيات. فتح الورقة الرسمية المختومة بخاتم دائري بتأن وحرص، ثم مدها الي الخفير الواقف أمام الباب المتجاهل وجود أحد. تابع الخفير تحديقه في البعيد. رفع الرجل رأسه عاليا، ثم راح يسعل دون أن يفتح فمه كي يعلمه بوجوده. بينما لم يهتم له الخفير ثانية
كم كان الباب عاليا، وثقيلا لأنه مصنع من حديد الصلب، والخفير المتجاهل لوجوده يقف علي عتبة الباب بطريقة، كأن مكبسا يضغط علي رأسه، مد الرجل يده منحنيا باحترام
: حتي كاد يلمس الأرض
. استلمت هذا التبليغ، كي أحضر اليوم
لم يكترث الخفير بما سمع بل تابع تحديقه، وكأنه يقتفي أثر طير أو ذبابة تطير حول أنفه، من ثم أخذ ينظر بعيدا، قد يكون ذلك الرجل تحدث بصوت منخفض ولم يسمعه
: الخفير، لذلك كرر قائلا
. طلبوني اليوم الي هنا.. وها هو التبليغ
: لا جواب لدي الخفير، بعد دقيقتين قال له دون أن يحيد بنظراته
. قف جانبا وانتظر
. حسنا.
أثناء ذلك دخل الخفير وخرج عدة مرات وكلما عاد الي مكانه ارتسمت التعابير نفسها، والقسمات ذاتها علي وجهه. بعد انتظار دام نصف ساعة قال له الرجل:
طلبوا حضوري في هذه الساعة بالذات..
: رد عليه الخفير بصوت جهوري
قلت لك قف جانبا وانتظر.
. حسنا
لأول مرة في حياته يدخل الي مثل هذا المكان، بابه حديدي كبير وثقيل وعلي عتبته يقف خفير لا ينظر بوجه أحد، لأول مرة بحياته يعيش مثل هذه اللحظة لذلك كان متوترا من الخوف
. امتد طابور المنتظرين من نساء ورجال
: سمع صوتا مزمجرا
. أدخل
سمح له الخفير بالدخول دون أن يحيد بنظراته عن اتجاهها، تأهب الرجل للدخول لكن من أين؟. إذ كان الخفير منتصبا بكامل قامته بين دفتي البوابة، لذلك لم يتيقن من امكانية دخوله، طالما أنه لن يستطيع الدخول من بين ساقي الخفير، لذلك لابد من دفع الباب الحديدي
: صاح به الخفير
ليس من هناك.
بحث الرجل عن امكانية أخري، وعندما أظهر عجزه صرخ به الخفير:
ادفع الدفة الثانية.
كم كان الباب ثقيلا وعاليا، بجهد بالغ استطاع فتح دفة الباب بقدر شبرين لينحشر ويدخل عبرها
أدخله خفير آخر في 'كلبية' خشبية، علي بابها ستارة قماشية، راح الخفير يفتشه من أعلي رأسه وحتي أخمص قدمه. أثناء عملية التفتيش راح الرجل يتكركر، إلا أنه ضغط علي أسنانه كي يمتصها لكي لا يضحك. خرج الرجل ثانية من باب تلك 'الكلبية' ممسكا بالورقة بيده ليسأل خفيرا آخر مستفسرا ماذا سيفعل والي أين سيتجه، رفع الخفير رأسه مشيرا الي الوجهة التي يجب أن يسلكها.. بعد ذلك دنا الرجل من الطاولة المقصودة.
طلب منه الخفير الجالس خلف تلك الطاولة هويته دون أن يتفوه مبرزا رزمة من الهويات، ناوله الرجل هويته ليدون الخفير محتوياته في دفتر خاص. بعد هذا الاجراء أعطاه الخفير بطاقة خاصة تعلق بخيط علي الرقبة، وبإشارة منه طلب تعليقها، نفذ الرجل ما طلب منه، ثم سأله مستفسرا عما سيفعله. أشار الخفير بأنفه الي المكان الذي سيتجه نحوه.
ظن الرجل أن الجميع هنا لا يتكلمون أو أنهم يتقاعسون عن الكلام.. إن هؤلاء الذين لا يتفوهون بكلمة لأي سبب من الأسباب، بل يشيرون برؤوسهم وأعينهم وأنوفهم وأفواههم جعلوه يشعر أنه دونهم مستوي وأنه منحط وحقير، كما وأن هذا الاحساس خلق في أعماقه شعورا بالخوف والفزع.
اتجه صوب ما أشير له، وهناك وجد خفيرا آخر يقف خلف باب علي شكل قضبان حديدية. أمسكه هذا الخفير من زنده بإحكام ثم سارا سوية، كان يمسكه بطريقة وكأنه سيهرب أو أنه سيطير من بين يديه.
شعر الرجل بحاجته للتبول، ما هذا الحظ، يبدو أن الشعور بالفزع منذ لحظة الدخول هو السبب.
كانا يسيران في دهليز طويل جدرانه مزينة بكلمات مزخرفة.
: طلب من ذلك الخفير المطبق عليه والخجل يعتريه
أعذرني، هل أستطيع الذهاب الي المرحاض.
لم يتفوه هذا الخفير أيضا مثل غيره
ازدادت حاجة الرجل للتبول، كيف سيتحدث مع من استدعوه وكيف سيجيب علي أسئلتهم وهو علي هذه الحالة؟
: سأله ثانية
أين المرحاض؟
: صرخ به الخفير
! نسق خطواتك
عدل الرجل خطواته حتي أصبح يمشي مع الخفير علي نفس وقع الخطوات التي كانت تسمع من بعيد
احتقن الرجل أكثر حتي دبت الفوضي في وقع خطواته ثانية علي الرغم من كل محاولاته لاعادة تناسقها
: صرخ به الخفير ثانية
! نسق خطواتك
: حاول الرجل أن يتكلم وهو يقوم بتنسيق خطواته
أين المرحاض.. ال.. مر.. حاض.
راح الخفير يدق بقدمه علي الأرض لاسكاته كما طلب منه الرجل الذهاب الي المرحاض.
وقف الخفير عند زاوية الدهليز لذلك لم يكن أمام هذا الرجل إلا الوقوف والالتصاق به. بعد ذلك أشار الخفير بعينه ووجنته وأنفه الي الوجهة التي يجب أن يتجه اليها، ثم تركه والتفت عائدا. وقف الرجل وحيدا لفترة من الزمن وهو ينصت لوقع أقدام الخفير المبتعد.
ظن الرجل أن الخفير أشار له بعينه وحنكه وأنفه حيث يوجد المرحاض، ركض الرجل في الدهليز الطويل ولم يجد فيه بابا واحدا. توزعت المصابيح الكهربية علي سقف الدهليز المذكور واحدة كل خمسة، ستة أمتار، رغم ذلك كانت إنارة الدهليز خافتة. لأن تلك المصابيح كانت ضعيفة من ناحية ومن ناحية أخري كان بعضها لا يعمل، تحت كل مصباح تدلت سلسلة وعندما نتابع النظر نحو أسفل السلسلة تجد لوحة تحمل عبارة
'لا تخف' أو 'إياك والخوف'.
راح يحاكي نفسه 'حقيقة لم الخوف وما الداعي له'. دخلت السكينة الي قلبه فهدأت من روعه وبذلك تراجعت رغبته الحثيثة للتبول، فكر بينه وبين ذاته ووصل الي نتيجة مفادها أن كل شيء مرتبط بالسيكولوجيا حتي رغبة الانسان في التبول.
تابع مسيره وهو يقرأ اللوحات..
'تحدث دون خوف أو احراج من أحد'.. 'اطمئن أيها المواطن، أنت في مأمن' 'لا تخف'.. 'لا تخف'.
كلما قرأ هذه اللوحات اطمأن أكثر. حتي أنه، وبسبب وجوده وحيدا في الدهليز الطويل، نسي حاجته في التبول، بل علي العكس فقد تغلغلت السعادة في قلبه وبدأ يشعر بالفرح. وكونه وحيدا ولا أحد يراه لذلك راح يغني ويرقص مطقطقا بأصابعه.. وفجأة شاهد لوحة كتب عليها'لا تخف'.. 'الحياة بلا خوف حق مشروع من حقوق الانسان..' 'انزع الخوف من قلبك'.. 'لا تخف'..
رغم بشاعة صوته راح يؤلف أغاني ليغنيها مثل 'لا تخف.. لا تخف.. لا تخف'.
كان يرددها أحيانا كأغنية وأخري كنشيد، بعد ذلك استجمع قواه ثم راح يهدر بصوته كل ذلك كمن يغني كي يبعد الخوف عن قلبه عندما يمر من جانب مقبرة ليلا..
: بعد ذلك راح يمط أغنيته
'لا تخف.. لا تخف.. لا تخف.. أوف أوف.. لا تخف يا روحي.. لا تخف يا عيني.. أوف أوف لا تخف'.
اتجه يمنة ثم سار فترة من الزمن، بعد ذلك اتجه يسرة، كم هو مثير للاستغراب، إذ أنه سار طويلا ولم يصادف في طريقه بابا واحدا. وكم من الوقت سيسير والي أين سيذهب؟.. أخرج الورقة الرسمية المختومة وفتحها تحت المصباح الخافتة، ليقرأ مصدرها ثانية وكأنها ستفيده في محنته. بعد ذلك أعادها ثانية الي جيبه.
كأن هذا الدهليز يمتد تحت الأرض ويزداد عمقا. لأنه عندما دخل مع ذلك الخفير الذي أمسكه بعنف، نزلا في المدخل عدة درجات تحت الطابق الأرضي، إلا أنهما لم ينزلا لهذه الدرجة تحت الأرض، وكأنه في قبو عمارة ضخمة مخصصة لتمرير أنابيب تدفئة البناء المركزية
في تلك اللحظة شعر بانحدار الدهليز، هذا يعني أنه كلما مشي كلما انحدر تحت الأرض أكثر.
عندما شعر بالخوف ثانية أحس برغبته في التبول، ولكي يدخل السكينة الي نفسه راح فورا يقرأ ما ألصق علي الجدران واللوحات المعلقة بسلاسل علي سقف الدهليز 'لا تخف'.. انزع الخوف من قلبك.. يعيش الجريء الذي لا يسمح للخوف بالتغلغل الي قلبه!.. لا تخف، حقيقة زالت رغبته في التبول
وفجأة شق صراخ امرأة السكون السائد في الدهليز. فهم أن صراخها وبكاءها، وتوسلها المتواصل يبين مدي ما تعانيه، وأن روحها تحترق
كانت تصرخ وتبكي وصراخها يتعالي وكأن قطعة معدنية محماة تكوي جسدها العاري لتنتزع قطعة من لحمها أو سيخا حديديا يدخل في صدرها
تراخت ركبتا الرجل، وكاد يسقط علي الأرض، ولولا استناده الي الحائط، لتهالك ووقع حاول سد أذنيه بيديه كي لا يسمع العويل، لكن عبثا.. كانت الصرخات تتعالي وتتضخم عبر الدهليز الطويل. شعر ثانية برغبة في التبول، حتي أنه كان علي وشك التبول علي سراويله لعدم قدرته علي التحكم بنفسه. احتقن ثم ر اح يتلوي، وبما أنه لا يوجد في الدهليز الطويل مرحاضا ولا حتي بابا واحدا كي يرتاح، لذلك فكر بالتبول علي الحائط، إلا أنه لم يستطع القيام بذلك خشية أن يراه أحد ما أي شخص وهو يتبول في دهليز مركز رسمي، رغم أن الدهليز كان خاليا من أي شخص كان.
وفجأة ابتلعت عتمة الدهليز صراخ تلك المرأة مثلما ظهر فجأة. لينشق الدهليز ثانية الي فرعين، أيا كانت الأسباب لقد اختار السير عبر الفرع الأيمن، تعب كثيرا من مشيه لمسافة طويلة، حتي أخذت قطرات العرق تتسرب الي أسفل ظهره، أخذ أمله بالخروج من بين تلك الجدران تحت الأرض يتلاشي ويتبخر، حتي بات يشعر أنه في سجن لا محالة
بعدها ر اح يسمع أنين وصراخات وتوسلات وبكاء مجموعة أشخاص، بين فينة وأخري كان يسمع صوتا يشبه لسع سوط أو حزام علي جسم عار. أخذ الرجل يرتجف خائفا ثم انهار مكتوما في مكانه. كا ن في موقف يدفعه الي التبول علي نفسه. لم يعرف كم من الوقت مضي وهو علي هذه الحالة. تلاشت أصوات الصرخات والأنين والبكاء. إن سماع تلك الأصوات البشرية يعني أنه ثمة أشخاص هنا في مكان ما.
نهض من مكانه ثم راح يمشي بتثاقل، حاول أن يستعيد شجاعته بقراءة اللوحات المدلاة من سقف الدهليز.
'الانسان المتحضر لا يخاف'، 'الخونة يخافون!'، 'لا تخف'.
لو لم تكن هذه العبارات موجودة ولو لم يقرأها، لا عتل قلبه لا محالة
بدأت المياه ترشح من الجدران وتقطر من السقف وفي أرض الدهليز تجمع الماء المتسرب. فكر بالعودة الي الخلف، لكنه خشي أن ينشق الدهليز الي فرعين ثانية. راحت المياه المتسربة تتجمع ويرتفع منسوبها رويدا رويدا لذلك لم يكن أمامه إلا أن يرجع الي الوراء، في لحظة التفاته تماما انقطع التيار الكهربائي ليغوص في ظلام دامس مثل القطران. وبشكل لا إرادي أطلق صرخة خوف من العتمة، في تلك اللحظة بالذات سمع صوتا ناعما هادئا
لا تخف!، ليس ما يدعو للخوف
نظرا لهول المفاجأة غير المتوقعة لسماع صوت آدمي أطلق صرخة ثانية.
سمع ذلك الصوت الهاديء ثانية وهو يتردد، وكأنه رجع الصدي يشق العتمة:
لا تخف.. لا تخف، فأنت في أمان هنا
رغب الرجل في أن يشكره، إلا أنه لم يستطع ولم يصدر عنه سوي نبسات شفاه متحركة
انتظر فترة عله يسمع ذلك الصوت ثانية، وعندما لم يسمعه حاول السير في العتمة متلمسا طريقه بكلتا يديه. بلغ منسوب الماء مستوي أعلي حذائه، ولم يستطيع التخلص من الماء، ولكي يحدد مساره بدقة راح يبحث عن الجدار متلمسا الاستناد عليه، شيء مرعب، حاول أن يسير في كل اتجاه من الاتجاهات الأربعة أربعين وخمسين خطوة، ومع ذلك لم يستطع تلمس الحائط. هو الآن في مكان مظلم فسيح بلا جران، وكأن جدران الدهليز اختفت فجأة
خارت قوة، وخانته قدماه فانهار متكوما في مكانه وسط الماء
برر لنفسه أن لا شيء هنا يخيفه طالما أن لا شيء سيميته، علي كل حال تذكر فجأة علبة أعواد الثقاب في جيبه، ضوء أعواد الثقاب سينير له الدهليز وعندما يجده سيستطيع تحديد اتجاهه. أخرج علبة الثقاب، معظم أعواد الثقاب أصابها البلل، راح يقدح أعواد الثقاب، احداها بشرة بشرارة فاشتعل ونثر ضوءه مبددا العتمة، مد يده الي الأمام كي ينير طريقه. عندما رأي أمامه تماما كفين كبيرين أكبر من كفي يديه بمرتين كان سيطلق صرخة، بل قل أطلقها إلا أن لم يستطع أن يطلق من فمه سوي زفرة بسبب ارتباط لسانه. حاول الهرب إلا أنه ساقيه خذلتاه، عندما رفع لهب عود الثقاب عاليا لمح أمامه شخصا ضخما يبتسم. انطفأ عود الثقاب. لم يتجرأ علي اشعال عود ثقاب آخر، خشي كثيرا أن يصيبه هذيان الرعب، فهو الذي كان يبحث منذ ساعات عن شخص آدمي، وإذ بهذا الانسان يقابله وجها لوجه
قد يكون ما رآه ليس إنسانا حقيقيا بل هلوسة فارغة، يعني أحلام اليقظة، لكن لو تكن كذلك إذا لم كاد أن يبول تحته أوربما بال قليلا.. لا! لا، يمكن أن تكون أحلاما أو مجرد هلوسات، بل هو إنسان حقيقي، لأنه تكلم بصوت ناعم كنعومة المخمل وقال:
لا تخف.. لا تخف!.
: أجابه الرجل
. بسبب العتمة
لم لا تضغط علي زر الكهرباء وتشغل المصباح؟.
لأنني افتقدت الجدران ولا أجدها.
الجدار خلفك تماما.
عندما مد الرجل يده الي الخلف تلمس الجدار مباشرة، ضغط مفتاح الكهرباء الذي وجده فسطع النور في الدهليز، جدران الدهليز كانت لا تزال في مكانها.
وهكذا استطاع أن يراه ذلك الرجل، وبسبب ابتسامته تمكن من لملمة شتات البقية الباقية من جرأته ليسأله من هو، أجابه بأنه خفير هنا ومهمته هي إبعاد الخوف عن قلوب المواطنين، بعد ذلك أشار له الي لوحة معلقة وقال له:
اقرأ هذه اللوحة؟.
: قرأ الرجل العبارة
! لا تخف
ثم إشارة نحو لوحة ثانية وقال له:
. اقرأة هذه أيضا
! لا تخف
أذا لم تخاف؟.
: أجابه
أنا لست خائفا.
رد عليه الخفير
خائف، خائف أنت.. لا تخف
: لكن عندما أجابه الرجل ثانية
لست خائفا.
: صرخ الخفير وأنبه قائلا
'ولك' خائف أنت.
كان الخفير جادا فيما يقول، لذلك رد الرجل متلعثما:
. خائف لكن ليس علي درجة كبيرة
وقبل أن يتمم عبارته أتته صفعة قوية ارتطم بسببها رأسه بالحائط وعلي أثره شعر
: بحاجة التبول
ولك كلب ابن الكلب وكيف ستخاف أكثر من ذلك، ها أنت خائف!.
: بال الرجل من الخوف، ثم قال بينما كانت فخذاه تتبللان بالبول الدافيء
. لن أخاف بعد ذلك، علي كمل شعرت بالطمأنينة عندما رأيتك
لكن عندما أتته الصفعة الثانية علي خده الثاني لم يكتف الرجل في التبول بل خريء تحته.
: صرخ الخفير
. ولك.. تقول أنك لست خائف وخوفك اختلط بخراك
: اندهش الرجل ولم يعد يعرف ماذا سيقول
أنت محق بما تقول، أنا خائف قليلا، لأنني لست معتادا علي ارتياد مثل هذه الأماكن. هذه هي المرة الأولي.
: ثانية راح الخفير يتحدث بتودد
لا تخف، أنظر لقد وضعنا في كل الأماكن لوحات كتب عليها 'لا تخف' كي يقرأها المواطنون. لذلك لا تخف.
: أجابه الرجل متملقا
. حسنا، لن أخاف.. وكما تفضلتم، لا شيء يدعو للخوف
صرخ الخفير فجأة:
ولك.. يا حيوان ابن الحيوان، أما زلت خائفا؟.
: رد الرجل هامسا من الخوف
لست خائفا..
ثم راح يبكي مرتجفا.
ولك.. طالما أنك لست خائفا إذا لم الخوف؟...
آه.. قليلا.. يمكنك أن تعتبر ذلك.
بعد الصفعة التي لطمت وجهه دار الرجل حول نفسه لينهار علي الأرض وسط الماء.
: تابع الخفير حديثه واقفا بجانب رأسه
.إياك والخوف، لا تخف بتاتا.. لا شيء يدعو للخوف
كانت هذه الكلمات والألم الناجم عن رفسة في رأسه هما آخر ما يتذكره، بعد ذلك فقد وعيه .
مشفي (......) للأمراض العقلية العصبية.
جدول مراقبة المريض
الاسم: م.ج
1981
التشخيص: Psychasthenia.
النبض
الضغط
مقياس الحرارة
العلاج
ثلاث قطرات من
HADOL
وحبة ANAFRANIL
. يوميا


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
مع الأديب التركي الساخر عزيز نسين
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اربد :: المنتدى العلمي :: ادب و شعر :: مكتبة اربد-
انتقل الى: