الحديث عن الرمثا يوقظ فينا حنيناَ الى زمن افتقدناه ونشعر اليوم أننا بأمس الحاجة اليه, مع قناعتي المطلقه بأن الماضي لا يعود, وأن حركة التاريخ هي حركة تقدميه ودائماَ للأمام, وفي هذا أختلف مع أحد الفلاسفة الذي يقول بأن التاريخ يعيد نفسه مرتين : مرة على شكل مأساة ومرة على شكل ملهاة , فالتاريخ برأيي لا يعيد نفسه الا أن هذا لا يمنع أبداَ من أن نعود نحن للتاريخ كي نستذكر الماضي الجميل حتى نعيد تشكيل وترتيب وتأسيس منظومة القيم الأصيلة المزروعة في نفوسنا منذ القدم والتي أحياناَ تتشوه وربما تنقلب رأساَ على عقب وتوصلنا الى مرحلة الصدام مع النفس والعيش بحالة انفصام شخصي وصراع بين أن نعيش في الزمن الجميل أم أن الزمن الجميل يعيش فينا بذاكرته ؟ وأجد نفسي أحمل الة تصوير وأتنقل في شوارع الرمثا وحاراتها وساحاتها لأرى حبلاَ طويلاَ من الأسلاك الكهربائيه معلق أمام أحد المنازل تتدلى منه مصابيح انارة متساوية الحجم والشكل متباعده فيما بينها تباعداَ محسوباَ بدقه , تعلن لعموم الناس أن هناك عرساَ ستبدأ اولى فقراته هذه الليله , لا يوجد هنا بطاقات دعوة , ولا تبليغ عبر الهاتف, وينتقل الخبر مشافهةَ بين الناس بسرعة البرق , وما أن يبدأ الليل بتكوير نفسه على النهار حتى تضاء المصابيح , وحين تنظر اليها من تحتها تراها وكأنها ثمار فاكهة ناضجه تؤكل بالعين لا بالفم , ويبدأ الناس بالتوافد الى مكان (التعليله) من مختلف الأعمار : أطفال صغار مرحب بهم , شباب , رجال شيوخ كبار, ولا يفتأ ابو العريس بالترحيب بالضيوف فرداَ فرداَ, وتبدأ صواني الشاي المخمر كثير السكر بالدوران . بحركات دائريه على الناس, تنافس في حركتها حركة دلات القهوه الساده . ويبدأ شيوخ القوم بتفقد الغائبين فلا عذر لأحد هذه الليلة , فعلى الجميع الحضور , وهذه مناسبة لاصلاح ذات البين بين أبو العريس من جهه وبين أي شخص على خلاف معه لأي سبب كان , سواء أكان بسيطاَ على لعبة (منقله) أو(قطار), أو خلافا كبيراَ على أمتار من الأرض , ويكون أبو العريس في هذه اللحظات أقرب ما يكون الى نزعة التسامح مع أي شخص كان حتى تتاح الفرصة للجميع لحضور العرس , وبعد أن تنتهي المصالحات وتعود الأنفس الى ما كانت عليه تبدأ أولى فقرات هذه السهرة بالجوفيه, وهي نوع من الغناء التراثي الأصيل ينقسم فيه الرجال والشيوخ الى صفين متقابلين , لو نظرت اليهم من الأعلى لحسبتهم خاتماَ من الذهب انقسم الى قسمين يتنافس كل قسم مع الآخر ايهما يلمع صوتا أكثر من الأخر, ويبدأ الرجال غنائهم بذكر الله (أول القول ذكر الله) ثم بخزي الشياطين (والشياطين نخزيها)ثم تتصاعد الألحان ويزداد تسارعها ويأخذ كل فريق بالرد على الفريق الاخر وهكذا الى أن يتعب الفريقين , ويتنحى أبطال الجوفيه جانباَ عن الساحة طائعين , تاركين المجال لشباب الدبكة في تبادل سلمي وديمقراطي للفقرات الفنيه , ويجلس الشيوخ على الكراسي المعدة لهم ويخرج أبو ابراهيم صندوق (التتن) المعدني المزركش ذو اللون الفضي من جيبه ليلف سيجارة الهيشي بورق ( الأوتومان ) وبعد أن ينتهي من اللف يمرر السيجارة على شفتيه كي تلتصق أطراف الورقة ببعضها , ثم يبصق ما علق على طرف لسانه من التبغ يميناَ ويساراَ , ثم يخرج من جيبه الاخرى قداحة الكاز اللتي تأبى أن تتجاوب معه من أول (قدحه) فيحاول مره اخرى, ويميل برأسه على صديقه الجالس بجانبه :
- هسع حطيلتها حجر شو مالها ؟
- هاظا أكيد كازها خالص .
- لا تو ني عبيتها كاز .
- لعاد طول بالك عليها تا تحمى