رابعاً: أمَّا في اللحظة التي بلغ فيها عمر الكون جزءاً من مئة مليار (أي
10-11) من الثانية، فإن درجة حرارة الكون انخفضت إلى أقل من مليون مليار أي
1510 درجة مطلقة أو كلِفن، وأصبحت ظروف الكون مواتية لانشطار توأمي القوة
النووية الضعيفة والقوة الكهرطيسية، فولدت هاتان القوتان كقوتين مستقلتين
وظيفيتين. وهنا أيضاً حدث هذا الانشطار بآلية فصم متناظرة. وكما أن الفوتون
هو رسيل القوة الكهرطيسية (وهو عديم الكتلة)، فإنَّ الجُسيمات W+ (من ضعيف
weak)، و Z و W، هي رسل القوة النووية الضعيفة، وذات كتلٍ مرتفعة. يمكن
القول إذاً أنَّ هذه المرحلة من عمر الكون أصبحت تتمتع بفعل القوى الأربع
للطبيعة التي ولدت على التتالي بتحولات طورية ثلاثة (انظر الفقرة 2-1):
الثقالة في اللحظة 10-43 من الثانية (لحظة حدوث الانفجار الأعظم وبدء ولادة
الكون بزمانه ومكانه)، ثم القوة النووية الشديدة في اللحظة 10-35 من
الثانية، ثم القوتين المدموجتين: النووية الضعيفة والكهرطيسية، وأخيراً
انفصال هاتين القوتين عن بعضهما في اللحظة 10-11 من الثانية. ولا بد من
التأكيد في هذا الصدد أنَّ ولادة هذه القوى أتى كنتيجة منطقية لتبرد الكون،
وأنَّ هذه الولادة كانت ((مبرمجة)) في الزمن والمكان، بحيث يكون وجود هذه
القوى (وكذلك الجُسيمات الحاملة لها، أو رسلها) شرطاً حرجاً وأساسياً
للانتقال إلى المرحلة التالية (أمر يحدث، من حيث المنطق، أثناء تكون الجنين
في الكائنات الحية، وسنعرض له في القسم الخاص بالتطور البيولوجي من هذا
الكتاب). هذا، وسنشير إلى العلاقة بين درجة الحرارة وتكون الجُسيمات
العنصرية والذرات في القسم الثاني من هذا الكتاب (التطور الفيزيائي
الكيميائي).
خامساً: وتعدُّ اللحظة التي تعادل جزءاً من مليون (أي 10-6) من الثاني
المرحلة التي بدأت فيها الكواركات الحرة بالاختفاء وإلى الأبد. ففي هذه
اللحظة، تبرد الكون الوليد إلى الدرجة عشرة آلاف مليار (أي 1310 درجة
مطلقة). كانت الكواركات وأضدادها (قبل هبوط السخونة إلى هذه الدرجة) تهيم
في الفضاء شوشياً (عشوائياً) على غير هدى، تتشكل وتتفانى بأعداد هائلة.
ولكن ما إن أصبحت درجة الحرارة أقل بقليل من الدرجة المشار إليها أنفاً،
حتى أصبحت طاقة الجملة غير كافية لتشكيل كواركات وكواركات مضادة جديدة، في
حين أنَّ ما هو موجود منها استمر بالتفاني شفعاً شفعاً (زوجاً زوجاً)،
وبأعداد كبيرة، الأمر الذي استدعى وصف هذه المرحلة بِـ ((مذبحة الكواركات))
التي لم تتوقف إلاَّ عندما انخفضت درجة الجملة إلى ما دون ألف مليار (أي
1210) درجة مطلقة.
سادساً: عندما أصبح عمر الكون جزءاً من عشرة آلاف (أي 10-4) من الثانية،
أصبح حجم الكون (نتيجة التوسع الذي تقارب سرعته سرعة الضوء) بحجم المنظومة
الشمسية الحالية، وبدأت الكواركات (التي نجت من المذبحة) بالترابط بعضاً
ببعض، لتشكل الباريونات Baryons، التي هي البروتونات والنترونات التي نشأت
من الكواركين U وD. ولقد حدث الارتباط بفضل القوة النووية الشديدة، ممثلة
برسيلها الغليون Gluon (الغراء النووي) ويمكن القول أنَّ نواة أول عنصر
(نواة الهدرجين أو البروتون) قد تشكلت في هذه المرحلة.
سابعاً: ما إن مضت على ولادة الكون ثانية واحدة، وتبردت درجة الحرارة إلى
بضعة عشرات مليار الدرجة، حتى توقف فناء الأنواع الثلاثة للنترينو، وهي:
نترينو الإلكترون ونترينو الميون، ونترينو التاو. ويعود أمر نجاة أنواع
النترينو (التي كانت حتى هذه المرحلة تحت سيطرة القوة النووية الضعيفة) إلى
التبرد المتزايد للكون الذي أدى (في النهاية) إلى إضعاف هذه القوة، الأمر
الذي سبب انعتاق أنواع النترينو بأعداد كبيرة، كي تهيم في فضاء الكون حتى
يومنا هذا. ولقد اتضح مؤخراً أنَّ للنترينو كتلة ضئيلة جداً، خلافاً لما
كان يظن بأنَّه عديم الكتلة.